حريق هائل في مستودع يحتوي مواد كيماوية استمر لعدة أيام

حريق هائل في مستودع يحتوي مواد كيماوية استمر لعدة أيام

في الساعة الرابع والنصف فجرا من أحد أيام ربيع عام 2000 تعرض مستودع تابع لأحد مصانع الجلود الكبرى في السعودية لحريق هائل أتى على محتويات المستودع بالكامل وذلك بعد أربع ساعات من مغادرة آخر وردية من العاملين بالمصنع, حيث قدرت الخسائر الناتجة عن الحريق بشكل مبدئي بقيمة تقارب خمسة ملايين ريال, وهي القيمة التي تقدم بها المصنع مطالباً شركة التأمين بسدادها بناء على وثيقة التأمين المبرمة معها والتي تغطي خطر الحريق والأضرار والخسائر الناتجة عنه وتشمل مبنى المصنع ومكاتب الإدارة والمستودعات التي تعرض أحدها لخطر الحريق. لقد رفضت شركة التأمين قبول المطالبة المقدمة لها من المصنع وبررت ذلك بأن الحريق الذي أصاب المستودع لا تغطيه وثيقة التأمين للأسباب التالية :
* إهمال المصنع في اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع الحريق ومنها نظام الإنذار الذي ثبت أنه لم يكن يعمل عند حدوث الحريق, حيث تنص الوثيقة على عدم التزام الشركة بالتغطية التأمينية في هذه الحالة.
* أن الحريق قد نجم عن الاشتعال الذاتي لمواد صوفية مخزنة في المستودع وتنص الوثيقة على استثناء حالة الاشتعال الذاتي للمواد المخزنة من التغطية.
* استخدام المؤمن له للمستودع في التصنيع بدليل وجود ماكينات خاصة بصناعة الجلود في المستودع, أي أن المستودع استخدم في غير الغرض المعد له دون إبلاغ شركة التأمين ما يلغي حق المؤمن له في المطالبة بالتعويض.
وقد رفض المصنع الأسباب التي قدمتها شركة التأمين لرفض المطالبة وأصر على مطالبته وأن ما تدعيه الشركة غير صحيح, ولما كانت وثيقة التأمين تنص على التحكيم كوسيلة لحسم النزاع بين الطرفين بحكم بات ونهائي وملزم للطرفين فقد اتفق الطرفان على إحالة النزاع للتحكيم, وقد تشكلت هيئة التحكيم وباشرت نظر الدعوى لفترة طويلة نسبية استمرت سنة وشهرين, وتم تمديد فترة التحكيم خلالها ثلاث مرات نظراً للتعقيدات الكبيرة التي أحاطت بموضوع القضية وما أثير خلالها من جدال ونقاش بين الطرفين كان يعيد القضية دائماً إلى نقطة البداية لعدة مرات.
عند بداية التحكيم قدمت شركة التأمين تقريرا أعده خبير متخصص في المعاينة يؤيد وجهة نظرها ويؤكد أن الحريق اندلع نتيجة الاشتعال الذاتي للمواد المخزنة إضافة إلى وجود غلاية تعمل بالبخار داخل المستودع لكن المصنع رفض هذا التقرير ورفض الاحتجاج به لأنه تقرير صادر عن جهة غير رسمية وتمسك بسلامة نظام الإنذار كما تمسك بتقرير الدفاع المدني, وأشار إلى أن سبب الحريق مصدر حراري بطيء ضرب له مثلا بعقب سيجارة أو ما يماثله في الوقت الذي تمسك فيه دفاع الشركة بأن المصدر الحراري البطيء يعني فقط حالة الاشتعال الذاتي التي تعتبر من الحالات المعتادة بالنسبة للأصواف, كما تمسك المصنع بأن الآلات الموجودة بالمخزن لم تكن تعمل وإنما كانت مخزنة في المستودع لأنها معطلة عن العمل وبالتالي لا يجوز للشركة التمسك بالقول بتغيير المصنع للغرض الذي أعد المستودع من أجله.
وقد قامت الهيئة بطلب تقارير من الدفاع المدني والالتقاء بالضباط الذين تولوا معالجة الحريق وطلب إصدار تقرير جديد وكذلك سماع عدد كبير من الشهود والانتقال إلى موقع الحادث للمعاينة, والواقع أن هيئة التحكيم قد وجدت أن أفضل حل للدعوى هو عرض الصلح على الطرفين، إذ عرضت عليهما مرتين في أثناء نظر الدعوى الصلح على أن تدفع شركة التأمين للمصنع نصف قيمة المطالبة ومن ثم تنتهي الدعوى صلحاً وهو ما رفضه الطرفان في المرتين, وأثناء نظر الدعوى أصر دفاع شركة التأمين على نقطة جوهرية وهي القول بأن الحريق قد نتج عن الاشتعال الذاتي للمواد الصوفية المخزنة في المستودع وقد أتى في سبيل ذلك بتقارير علمية مترجمة حول حرائق الصوف وقدم تفسيرات متعددة لتقارير الدفاع المدني وخبير المعاينة وأقوال الشهود بهدف إقناع هيئة التحكيم بأن اندلاع الحريق كان نتيجة الاشتعال الذاتي الذي لا تغطيه وثيقة التأمين, لقد انتهت هيئة التحكيم إلى الحكم بتحمل شركة التأمين ما يعادل ثلاثة ملايين ريال تعويضاً لصالح المصنع عن أضرار الحريق ورفضت دفوع شركة التأمين, وصدر القرار بأغلبية صوتين إلى واحد حيث تحفظ أحد أعضاء هيئة التحكيم على الحكم ورأى أنه جانبه الصواب وأن وثيقة التأمين لا تغطي هذا الحريق مستنداً إلى نظام إطفاء الإنذار وإن كان قد سمع صوته عند بداية الحريق إلا أن ذلك لا يعني الفاعلية الكاملة لنظام الإنذار لأنه يتكون من جزءين هما إطلاق جرس الإنذار ونظام إطفاء الحريق لم يكن يعمل وهو ما أدى إلى ارتفاع معدل الخسائر, إضافة إلى وجود كميات غير مألوفة من المواد الكيماوية القابلة للاشتعال, إضافة إلى أن الماكينة البخارية كانت تعمل بالفعل بدليل إقرار العامل الذي كان يعمل عليها بذلك وأنها كانت تعمل حتى قبل ساعتين من اندلاع الحريق.
وإذا كان لنا أن نستخدم الحق المتعارف عليه في التعليق الفقهي على الأحكام القضائية, فإن أول ما نلاحظه هو أن قرار هيئة التحكيم هو في جوهره إلزام للطرفين بالتسوية التي عرضتها عليهم, أي أن الهيئة في نهاية الأمر لم تجد وسيلة للبت في موضوع الدعوى سوى إلزام الطرفين بالتسوية حتى وإن اتخذ ذلك صورة القرار التحكيمي المعلل فقهيا وقضائياً والمبني على حيثيات محددة.
والواضح من القضية وجود مخالفات عديدة ارتكبها مصنع الجلود وأهمها انحراف النشاط من التخزين إلى الإنتاج بدون مراعاة شروط السلامة ودون الحصول على تصريح من الدفاع المدني حيث كانت المنطقة التي يمارس فيها النشاط لا يسمح فيها إلا بالتخزين باعتبارها منطقة مستودعات, كما أن الكهرباء التي تغذي آلات الإنتاج بالمستودع تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة ودون موافقة الدفاع المدني حسب إفادة الضابط الذي باشر القضية. هذا بالإضافة إلى أن وقت الحريق يجب أن يلفت أنظار هيئة التحكيم وألا يمر مرور الكرام لأن الحريق وقع بعد عيد الأضحى مباشرة, وهذا يدلل على أن المستودع قد استقبل كميات كبيرة من جلود الأضاحي وكان يمارس نشاطاً تصنيعياً نظراً للضغط الهائل الذي لا يكون إلا في مثل هذه المواسم وهذه قرينة على أن المستودع لم يكن للتخزين فقط بل لممارسة نشاط التصنيع المحظور نظاماً في المنطقة التخزينية، وهو بلا شك انحراف كبير عما تم الاتفاق عليه بين شركة التأمين والمصنع. ومع ذلك صدر الحكم لصالح مصنع الجلود بالتعويض على الرغم من الاستثناءات الصريحة التي تنص عليها وثيقة التأمين في ظل وجود المخالفات, ما يعكس الحاجة إلى وجود متخصصين قانونيين في التأمين يدركون أبعاد فن التأمين وجوانبه القانونية في المملكة.

الأكثر قراءة