وثائق التأمين "ملغومة" فخذ حذرك منها
جمعتني مناسبة ذات مرة مع أحد مديري شركات التأمين من إحدى الجنسيات العربية فدار بيننا حديث عن التأمين وفاجأني بمعلومة لم أكن أتوقع أنه يمتلك الجرأة ليفصح عنها بهذه الطريقة الفجة، فقد قال لي بالحرف الواحد لو قرأت (أنا)، أي هذا المدير، وثائق التأمين التي تصدرها شركتي لما أمنت عندها، وختم عبارته هذه بضحكة مجلجلة اختلطلت سيمفونياتها مع طبقات دخان السيجار الكوبي التي خرجت تباعاً من فمه، ثم استطرد قائلا: يا أخي عندكم لا أحد يقرأ ولا أحد يكلف نفسه عناء مطالعة حتى اسم الوثيقة، الناس هنا تسمع فقط، نعم قد تصغي للحديث ولكنها من باب الأدب فقط وليس من باب التمحص والتدقيق، الناس هنا - والحديث لهذا المدير - لديهم ثقة مفرطة بما يقال ولا يعيرون اهتماما لما هو مكتوب يصدقونك تماما فيما تقول وفيما تعدهم حتى لو كانت هذه الوعود لا تستقيم مع المنطق ولا مع العرف. الكلمة المنطوقة عندهم أهم وأكبر بكثير من المكتوبة حتى لو كان فيها قطع لرقابهم.
طبعاً بالنسبة لي وبحكم معرفتي بالسوق فأنا لم أستغرب أبداً هذا النهج أو لنقل هذا (الفن) الذي درج على العمل به الكثير من المنتفعين من هذه الممارسات، ولكني وجدت مبرراً لهذه الجرأة وهذه (الشجاعة) التي كان عليها محدثي لأنه حتماً لن يجد من يلومه على ما كتب في وثائق تأمينه فهو يعلم أنه لا توجد رقابة ولا عقوبات فاعلة تطبق على شركته، إذا ما هي خرقت حقوق العميل في وثائقها ووضعت ما شاءت من شروط وتحديدات واستثناءات تفرغ في النهاية وثيقة التأمين من مضمونها وتجعلها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، هذا إذا ما استثنينا وثيقة أو وثيقتين اعتمدتهما الجهات المختصة على مضض. ولا شك في أن الذي يغيظ كثيراً هو أنه في صياغة وثيقة التأمين عادة ما تكون مقدمتها هي الفخ الذي يقع فيه العميل أو هي العسل الذي لن يقاوم حلاوته العميل، حيث تكتب في مقدمة الوثيقة وبخط عريض وواضح عبارات فضفاضة ومجملة تحدد نطاق التغطية، القصد منها بالتأكيد الإيقاع بالعميل وإيهامه بأن هذه العبارات الواسعة والفضفاضة وضعت لمصلحته، فلو أخذنا مثلاً وثيقة التأمين الصحي لشركة ما فإننا نجد في الغالب أنه مكتوب في صدر الوثيقة العبارة التالية: تغطي هذه الوثيقة جميع الأمراض التي يتعرض لها المؤمن له طيلة سريان الوثيقة، فحينما يقع ناظرك مثلاً على هذه العبارة ومدلول عبارة (جميع الأمراض) فإنها ستتهلل أساريرك لهذا الكرم الحاتمي الذي تقدمه الشركة لك ولكن المفاجأة لن تكون جميلة فيما لو قرأت ومحصت الوثيقة أو حتى استطردت في القراءة لتجد أن معظم الأمراض مستثناة من التغطية التأمينية أو أنها مغطاة بشروط ولتجد في النهاية أن عبارة (جميع الأمراض) أصبحت غير ذات معنى لأن الشركة دست في وثيقتها استثناءات كثيرة، بل تكتب هذه الاستثناءات بخط صغير وأحيانا غير مقروء إمعاناً في تضليل العميل. وما يحصل في التأمين الصحي يحصل تماماً في الوثائق التي تغطي مجالات التأمين الأخرى من دون استثناء.
الإشكالية في، حقيقة الأمر، هي أن شركات التأمين عندما يأتي إليها العميل فهي تصنع له من البحر طحينة كما يقول بعض إخواننا العرب فموظف أو مندوب التأمين لا يروق له الحديث إلا في عرض مزايا وثيقة الشركة، فهو لا يذكر للعميل في الغالب الاستثناءات والالتزامات التي ينبغي أن يعلمها العميل سلفاً قبل التوقيع على التأمين، بل لا يذكر له أصلا أهمية الوثيقة كمستند أو أهمية الاطلاع على محتوياتها.
والأقسى من ذلك كله هو فيما لو وقع الخطر المؤمن ضده واستحق العميل التعويض، فرحلة معاناته ستبدأ مع شركة التأمين بإثارة الألغام الكامنة والخفية في وثيقة التامين، فالشركة سيكون جل همها البحث عن الأسباب والمبررات التي تمنع العميل من الحصول على حقه وما أكثرها. وأذكر طرفة في هذا الشأن وهي أن أحد عملاء شركة تأمين في مدينة جدة حصل له حادث سرقة في منزله وعجزت الشركة عن إيجاد المبررات التي تحرمه من التعويض عن المسروقات وفقاً للوثيقة، فما كان منها إلا أن تذرعت بعدم أحقية العميل للتعويض لأن السارق لم يتم إلقاء القبض عليه، فما كان من العميل إلا أن قال لو وجدت السارق لما كنت بحاجة للحصول على مبلغ التأمين من الشركة فأنا سأحصل على حقي من اللص. وختاماً أتمنى من الشركات ألا تضع نفسها في مثل هذا الموقف المحرج لأنها ستتساوى مع ذلك المجرم الذي سرق بيت هذا المسكين.
[email protected]