قطاع التأمين يحتاج إلى رقابة شرعية علي الممارسة لحمايته من الانحراف
أكد الدكتور زيد بن عبد الكريم الزيد عميد المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أن قطاع التأمين يحتاج إلى وجود رقابة شرعية علي الممارسة كي لا ينحرف الواقع التطبيقي عن المسار النظري المعلن.
وعزا الدكتور الزيد أسباب حاجة التأمين لأن تكون ممارسة تحت الرقابة الشرعية، إلى أن التأمين من القضايا التي انتقلت إلينا من بيئة خارج الإطار الشرعي وحاول البعض إلباسه اللباس الشرعي من خلال إضافة بعض التحسينات إليه أو إزالة بعض الجزئيات منه، والأمر الثاني أن التأمين يمارس في مختلف نواحي الحياة ومن مختلف شرائح المجتمع ممن يكون منهم غير مختص في الشريعة بل غير ملم بأساسياتها.
وأفاد الدكتور الزيد فيما يتعلق بالخلاف القائم بين العلماء حول التأمين، أن عليهم أن يتبعوا القاعدة الشرعية التي تخص التأمين الإلزامي وهي: "أن حكم الحاكم يرفع الخلاف بين العلماء" أما الخلاف حول التأمين ككل فإن سببه أن التأمين كان وليد بيئة غير سليمة وذلك على اعتبار أنه انتقل إلينا من بيئة أخرى وقد شاع التعامل به فيما بعد بين الناس".
وقال الزيد ـ وهو حاصل على الدكتوراة في الفقه المقارن ـ في حوار له مع "الاقتصادية" إن مشكلة الشرعية في التأمين لا تتعلق بالتاطير أو التنظير وإنما بالممارسة والتطبيق، مشيرا إلى أن دور الهيئات الشرعية في التأمين سيكون أكثر فاعلية إذا عملت باستقلالية وحيادية.
هل تعتقدون أن ممارسة النشاط في التأمين يستلزم وجود رقابة شرعية على من يمارسه؟ ولماذا؟
ممارسة أي نشاط يجب أن تكون منضبطة بالإطار الشرعي لأننا كلنا متعبدون بالحلال فعلا والحرام تركا، سواء أكان ذلك في التأمين أو غيره، وفي نظري أن التأمين أحوج إلى وجود رقابة شرعية على الممارسة، وذلك لأمرين :
الأول : أن التأمين من القضايا التي انتقلت إلينا من بيئة أخرى مخالفة ، فقد عرف التأمين أول ما عرف خارج الإطار الشرعي ابتداء ، ثم مع التوسع الاقتصادي في البلاد الإسلامية احتاجت إلى التأمين فجرى استجلاب صوره من بعض الدول غير الإسلامية ، إلى بعض البلاد العربية والإسلامية بعلاته ، سواء الجائز منه أو الممنوع ، وحاول البعض إلباسه اللباس الشرعي بإضافة بعض التحسينات ، أو إزالة بعض الجزئيات ، وبالتالي فهو وليد بيئة غير سليمة ، نشأ وترعرع فيها ، وجاءنا صورة كاملة ، وفرق كبير بين أمر ينشأ في البيئة المسلمة ويكون وليدها ووفق تصوراتها ومنطلقاتها وبين ما يأتي جاهزا من الآخرين ، فما يأتي من الغير يحتاج إلى عملية ترميم كبيرة ، وإدراك ووعي ، وهذا يتطلب عملية دقيقة في التطوير ، ورقابة مستمرة في التنفيذ كي لا يفوت شيء غير سائغ ظنا أنه سائغ.
والثاني: أن التأمين يمارس في مختلف نواحي الحياة حاليا، فلو رأيت الواقع لوجدت أن التأمين حاليا يمارس في كثير من مختلف شرائح المجتمع، فالعامل والموظف في القطاع الخاص، المسافر، مستأجر السيارة، المشتري للسلعة، والمحتاج للعلاج، وغيرهم، وهذا يعني أن من يقوم بالممارسة مع هؤلاء، كثيرا ما يكون غير مختص في الشريعة بل غير ملم بأساسياتها، ولذلك لا بد أن تكون الممارسة تحت الرقابة الشرعية كي لا ينحرف الواقع التطبيقي عن المسار النظري المعلن.
اختلاف الفقهاء
يلاحظ كثرة الفتاوى المتضاربة في التأمين، فبعض العلماء يجيزه، وبعضهم يجيزه بشروط ، أو يجيز أنواعا منه ، وبعضهم يمنعه ، فماذا يصنع الشخص العادي تجاه ذلك ، وهو الحريص على ذمته ومرضاة ربه خاصة أن التأمين منه ما هو اختياري ومنه ما هو إلزامي لا خيار للشخص فيه؟
اختلاف الفقهاء في آرائهم الشرعية في مسألة مطروحة للنقاش ليس أمرا غريبا، فهم مثل غيرهم من المختصين، ونحن نرى في الواقع كيف أن الأطباء يختلفون في آرائهم في تشخيص أو علاج حالة مريض، وهذا في رأيي ـ أخطر - فتجد طبيبا يرى ضرورة المبادرة إلى إجراء علمية سريعة وطبيب آخر يرى الانتظار أو عدم فائدتها أو الاكتفاء بدواء معين، فماذا يصنع المريض في هذه الحالة، وهو لا يعرف ولا يملك من أمره شيئا والقضية تمس حياته، وهو مخير بين أي هذه الخيارات وعليه أن يختار. وكذلك المهندسون تجد عندهم الخلاف ذاته في الرأي في مسألة من مسائل تخصصهم على نحو ما أشرت إليه عند الأطباء، وقل مثل ذلك في سائر التخصصات، ولذلك لا يعاب اختلاف الرأي بل - هو في نظري - يحمد للفقيه وللعالم لأنه لم يكن إمعة مقلدا لغيره، وإنما اجتهد ودرس وتأمل وناقش حتى توصل إلى هذا الرأي الذي يراه أصوب الآراء وأسلمها.
أما موقف الشخص العادي تجاه ذلك فهو كما يختار رأي الطبيب الذي يثق بمكانته وعلمه فكذلك يختار رأي العالم الشرعي الذي يثق بعلمه، ولا يطالب بأكثر من ذلك، ومتى ارتاحت نفسه ووثق بعالم وأخذ برأيه فقد أدى ما عليه وبرئت ذمته إن شاء الله تعالى.
هذا جانب وجانب آخر أن قضايا التأمين منها ما هو اختياري ومنها ما هو إلزامي فالاختياري للشخص أن يختاره ويؤمن إذا اقتنع برأي الذي أفتى بالجواز، وله أن يحتاط لدينه ويترك ما يشتبه عليه، أما التأمين الإلزامي الذي يفرضه ولي الأمر فهذا لابد أن يعرف الناس قاعدة مهمة في هذا وهي (أن حكم الحاكم يرفع الخلاف) فإذا اختلف العلماء في مسألة فقهية، فبعضهم يجيزها وبعضهم يمنعها، ثم رفعت هذه الدراسة إلى ولي الأمر واختار أحد الرأيين، لزم هذا الرأي الذي اختاره ولي الأمر جميع الناس العلماء منهم والعامة، ولذلك فمن سلطة ولي الأمر الترجيح بين الرأيين واختيار أحدهما للعمل به.
وقد استغرب بعض الناس ممن لا يعرفون هذه القاعدة كيف أن بعض العلماء يرى مثلا تحريم التأمين، ثم لما اختار ولي الأمر الإلزام بالتأمين، أصبح يفتي بجواز هذا التأمين الذي ألزم به ولي الأمر، وظن البعض أن هذا مجاملة من هذا العالم لولي الأمر، وليس الأمر كذلك بل إن هذا العالم يطبق تلك القاعدة، وأن ولي الأمر يرفع الخلاف، فلما اختار ولي الأمر القول بالجواز لزم الجميع أن يعمل بذلك في واقع حياتهم، وذلك مثل التأمين على رخصة القيادة ونحوها، فهو وإن قال بعض العلماء بمنعه وحرمته لكن لما اختار ولي الأمر العمل به، فإنما هو استعمل سلطته في الترجيح بين الرأيين الفقهيين، واعتماد العمل بأحدهما في حياة الناس.
إصلاح الاعوجاج
هل تعتقد أن الضوابط الشرعية التي وردت في الفتاوى والأنظمة ذات العلاقة كافية في البيان ما إذا كانت الشركة تمارس تأمينا شرعيا أم لا ؟
إذا كانت الشركة تمارس تأمينا شرعيا وفق ما حددته الهيئة الشرعية والتزمت بتلك الفتاوى والضوابط التي وضعتها لها الهيئة الشرعية فقد قامت بما يطلب منها، والهيئة الشرعية تتحمل المسؤولية، ولكن المشكلة ليست في الفتاوى والضوابط، فالتنظير والضوابط النظرية ميسورة، ولكن المشكلة دائما تكمن في التطبيق، تكمن في عدم التزام كثير من الشركات بهذه الفتاوى والضوابط التي يحددها العلماء، وقد سمعت أن بعض الشركات تأخذ هذه الفتاوى وتضعها في منشوراتها، وفي مقار الشركة، أما في الممارسة والتطبيق فيجري أمر آخر، حيث يجري بعض التجاوزات التي لا تقرها لهم تلك الهيئة الشرعية، ولذلك أعود فأقول ليست المشكلة في الفتوى ولا في الضوابط وإنما المشكلة في الممارسة وأن يتحمل هؤلاء القائمون على الشركات الأمانة والمسؤولية أمام الله جل شأنه، وأن يطبقوا تلك الفتاوى التي يستندون إليها كما جاءت، وحفاظا على ذلك أقول لا بد من وجود رقابة شرعية لاحقة وهي لا تقل أهمية عن الرقابة السابقة التي تقوم بالتنظير وإعداد الأنظمة، وذلك من أجل سلامة المسار ولكي تقوم بدورها في التقييم والتقويم وإصلاح العوج.
خلاف كبير بين العلماء
ما المعايير التي ينبغي تطبيقها فيما يتعلق بالرقابة على شرعية أعمال التأمين؟
ليس من الميسور علي أن أذكر المعايير هنا، إذ لكل هيئة معاييرها التي ترى أنها تنقل المسألة من أصل الحرمة إلى الجواز وخاصة تلك الهيئات التي خاضت هذا المضمار، وأنت تعلم أن التأمين من القضايا التي لا تزال محل خلاف كبير بين العلماء مع تفاوت صوره وبعض منها مجمع على تحريمه، وبعض منها محل خلاف وبعض منها أفتت بجوازه هيئات علمية لها اعتبارها ومكانتها وذلك مثل التأمين التعاوني، وإن كانت المسألة ذات أهمية بالغة، والخلاف قائم، والآراء متعددة، إضافة إلى تأثير الحكم في هذه المسألة في فئة كبيرة من الناس، سواء في أمورهم العادية، أو التجارية، أو الرسمية، إلا أن الذي أراه دائما ألا تكتفي تلك الهيئات الشرعية بمجرد التنظير ثم تدع التطبيق لغيرها فعليها أن تتحمل المسؤولية أمام الله جل شأنه، فكما تصدت لهذا الموضوع وتحملت المسؤولية، وأصدرت فتوى بجواز صورة من صور التأمين فينبغي أن يحترم رأيها، لكن عليها أن تتأكد من هذه الجهة التي حصلت على هذا الفتوى واستندت إليها في عملها، أنها فعلا طبقتها كما هي، في أرض الواقع، وأن الذي يجري في تعامل الناس، هو ما ورد في التنظير، وبذلك أرى أن تلزم هذه الهيئة الشركة بالرقابة اللاحقة، وأن تقيد فتواها لهذه الشركة بالإجازة اللاحقة سنويا لأعمالها كي تتقيد الشركة بالفتوى.
المفتي يلجأ إلى رأي الخبير
هل تعتقدون أن أعضاء اللجان الشرعية يستطيعون بحث التأمين بمختلف جوانبه ومنها الفنية؟
أعضاء اللجان الشرعية هم من المتخصصين في الجوانب الشرعية، والفتوى والرأي الذي يصدر عنهم يمثل تخصصهم، وهو رأي شرعي بحت، وقد يكون للمسألة جوانب أخرى لكنها لا تخصهم، ومتى كانت هناك جوانب مؤثرة في الفتوى وهي ليس من المعرفة الشرعية، فإن المفتي يلجأ إلى رأي الخبير، ليقدم لها رأيا يمكنه من إعطاء الرأي الشرعي السليم، وكثير من الهيئات الشرعية بل والمفتين، والقضاة والمحكمين يستعينون بخبراء في التخصصات التي ليس لهم إحاطة بها، وعندما يقدم الخبير رأيه وتكتمل الصورة لدى المفتي يصبح الرأي الذي يقدمه رأيا سليما مبنيا على أصوله.
هيئات شرعية مستقلة
ما الآلية التي تضمن حيادية الهيئة الشرعية، وما المعايير التي يتم من خلالها اختيار أعضاء الهيئة الشرعية؟ وهل ترك ذلك لشركات التأمين يؤثر سلبا في أداء هذه الهيئات؟
أرى أن الهيئات الشرعية يجب أن تكون مستقلة وليست خاضعة لسلطة الشركات وتأتمر بأمرها، ولا أن تكون صاحبة مصلحة في نجاح الشركة أو خسارتها.
عموما فإن أعضاء الهيئات الشرعية هم من النزاهة والتقى ما يمنعهم من مجاراة الشركة وتقديم رضى الشركة على رضى الله جل شأنه، ومع ذلك فإن الشركات ذاتها تحرص على أن يكون أعضاء الهيئة الشرعية من المعروفين الموثوقين لأن ذلك يعد كسبا للشركة ودعما لسمعتها أمام الناس ورفعا لمكانتها في السوق.
والشركة التي تبحث عن أي شخص يفتيها ويجاريها في ما تريد فإنها قد تجد، ولكنهم سيكونون ممن لا مكانة لهم ولا قيمة عند الناس، وبالتالي فلا قيمة لفتاواهم، ولن تكون تلك الفتوى مقنعة عند الجمهور لكي يقبل التعامل مع تلك الشركة، مما يجعل الشركات لن تستفيد شيئا. وتلك الشركات تدرك أنه ليس المهم الفتوى، ولكن المهم قيمة المفتي ووزنه عند الناس، لأن ذلك سينعكس أثره على الشركة ومصداقيتها في أداء عملها، وبذلك ندرك أن الشركات عندما تختار بنفسها هيئتها الشرعية فلا يعد ذلك في نظري مخاطرة ذات قيمة، بحكم أن الهيئة إن كانت محل ثقة الناس ومن أهل التقى والورع والنزاهة، فلن تستطيع الشركة التأثير فيهم، وإن كانوا من الفئة الأخرى فلا قيمة لفتاواهم أصلا ولا وزن.