أوروبا العجوز .. «أكون أو لا أكون»

أوروبا العجوز .. «أكون أو لا أكون»

أدركت القارة العجوز أن هذا التوصيف لم يعد يجدي نفعا أمام سرعة التحولات المحيطة بها، فلا سبيل أمامها سوى النهوض بشؤونها بنفسها، إن هي أرادت الحفاظ على كيان الاتحاد في ظل التغيرات الطارئة والمتلاحقة. وبشكل خاص لما كان مصدرها دولة هي صاحبة اليد الطولى في إنشاء كيان الاتحاد الأوروبي؛ إذ يقول الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبراي، إنه وخلافا لما هو سائد من اعتقاد لدى الرأي العام الدولي، فإن فكرة الاتحاد في صورتها الحالية هي فكرة أمريكية وليست فكرة أوروبية.
أربك الرجل الجديد في واشنطن حسابات صناع القرار في بروكسل، ممن لم يستوعبوا بعد صدمة انسلال بريطانيا من التجمع الأوروبي، بعدما كان محور برلين - باريس يعول كثيرا على لندن للتصدي لمد الأمركة في بلدان أوروبا الشرقية الحديثة الالتحاق بمنطقة اليورو؛ لدرجة جعلت أحد الخبراء يتحدت ساخرا عن "أمريكا الشرقية" بدلا من "أوروبا الشرقية".
لقد وجد الاتحاد الأوروبي نفسه وفق تقرير لجريدة «الجارديان» واقعا بين مطرقة ترامب في الولايات المتحدة وسندان بوتين الباحث عن أمجاد الإمبراطورية الروسية، حتى بات فيها القادة الأوروبيون عاجزين تماما عن تمييز العدو من الصديق ضمن سيرورة التحول والتحول المضاد. • اتحاد برعاية أمريكية
لا يستطيع عاقل أن ينكر بصمة الأمريكيين في تأسيس الاتحاد الأوروبي، التي توزعت تباعا على السنوات الخمس لما بعد الحرب العالمية الثانية؛ بدءا بالدعوة إلى إنشاء كيان أشبه "بالولايات المتحدة الأوروبية"، مرورا بالإعلان عن مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، ثم إنشاء منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي قصد تنسيق المشروع فيما بين دول أوروبا الغربية، وصولا إلى التوقيع على معاهدة شمال الأطلسي المؤسسة لحلف شمال الأطلسي (1949).
مع التقدم في مسار بناء الاتحاد أدرك الأوروبيون أن فكرة أوروبا «الأوروبية» التي راودت مخيلة النخب الأوروبية الحاملة للواء الوحدة، اختفت فجأة وتركت المجال واسعا لميلاد تجمع توسعي، يعتمد على مقولات "القوة الناعمة"، من أجل تقليص سيادة الدول الأوروبية، ودفعها نحو تحالفات غير طبيعية تهدف إلى خدمة مشاريع الأوليغارشية العالمية بزعامة واشنطن.
لقد تيقنوا من حقيقة الأمر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حين فتحت بروكسل الباب على مصراعيه لدول وسط وشرق أوروبا، فكان ذلك بمنزلة أمركة مباشرة للاتحاد ولمؤسساته، لأن دول أوروبا الشرقية لا تكتفي بالدفاع عن الحضور الأمريكي، بل تعشقه إلى درجة الهوس، كما تردد على أكثر من لسان.
مرد ذلك إلى عاملين اثنين من وجهة نظر الخبير في الشؤون الدستورية وعضو البرلمان الأوروبي أندرو داف، يتعلق أحدهما؛ بالانفصال شبه الكلي عن القيم التقليدية للوعي الأوروبي التي تأسست وتوطدت في القسم الغربي من القارة، ويعزي الآخر إلى العداء التاريخي لدول هذه المنطقة لروسيا، فهي لا تجد حرجا من الارتماء في أحضان المحور الأمريكي المهيمن على العالم، لعلها بذلك تنتقم لنفسها ولشعوبها من إرث الحقبة السوفياتية.
• اتساع جبهة التهديدات
نبَّه الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس، في ندوة حول "أي مستقبل لأوروبا"؛ في مدينة برلين شهر أذار (مارس) الماضي، إلى جانب كل من وزير الخارجية الألماني زيجمار جابرييل والرئيس الفرنسي الحالي إمانويل ماكرون، إلى أن الغضب الشعبي في بعض الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا تحديدا) عائد إلى التكلس الذي أصاب السياسة، وما رافقه من غياب للبدائل وضعف المبادرة السياسية، أكبر تهديد داخلي يمكن أن يواجه بلدان الاتحاد. خصوصا ما يتعلق بالمشاكل التي لا يمكن حلها إلا على مستوى أوروبي.
بيد أن هذا الخطر يبقى في المستطاع ومقدور عليه في نظر ساسة القارة العجوز، إذا ما قُورن بالانقلاب الذي طرأ في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية حيال الاتحاد الأوروبي. فما أن بدأ الأوروبيون ينسون أو بالأحرى يتناسون موقف الحياد السلبي للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في الأزمة الأوكرانية، ما مكَّن المارد الروسي من استعادة شبه جزيرة القرم، مع ما يحمله ذلك من دلالات رمزية ستنعش أحلام الدب الروسي لإحياء أمجاده التليدة.
حتى فاجأهم الرئيس الحالي بالتدخل المباشر والعلني في الشؤون الداخلية للاتحاد، حيث ساند ترمب خروج المملكة المتحدة، مشيرا إلى إمكانية تطبيق نموذج "بريكست" في دول أوروبية أخرى، ليشعل غضب قادة أوروبا. فقد اعتبر رئيس المجلس الأوروبي الولايات المتحدة أحد المخاطر الخارجية التي تواجه الاتحاد الأوروبي، إلى جانب كل من روسيا والصين والإرهاب.
تصريحات ترمب لم تقف عند هذه الحدود، إذ تحول لموقع الهجوم حين وصف أوروبا بالقارة العجوز، واعتبرها ضعيفة عسكريا؛ فهي على حد تعبيره بحاجة إلى الاستعانة على الدوام بالولايات المتحدة التي أسست حلف شمال الأطلسي لحمايتها، حلف يرى الرئيس أن "الزمن عفا عليه".
• قلق في مختلف العواصم
لم تقض أي تصريحات مضجع صناع القرار في الاتحاد كما فعلت تلك الخاصة بترمب، حيث لم يتأخر رد رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، إذ اعتبر أن "التغيير في واشنطن يضع الاتحاد الأوروبي في وضع صعب، حيث يبدو أن الإدارة الجديدة تثير الشكوك في الـ 70 عاما الماضية من السياسة الخارجية الأمريكية". فيما يذهب جاي فيرهوفشتات، رئيس الوزراء البلجيكي الأسبق، وأحد الساسة المخضرمين على الساحة الأوروبية أبعد من ذلك حين يعلن أنه "ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يصبح قادرا بشكل مستقل على ضمان أمنه. وأي شيء أقل من هذا لن يكون كافيا لتأمين أراضيه. الواقع أنه قرار صعب ولكنه بالغ الأهمية، وقد أرجأ الاتحاد الأوروبي اتخاذه لفترة طويلة للغاية. والآن بعد انتخاب ترمب، لم يعد يملك ترف الانتظار".
رد برلين القلب النابض لمنطقة اليورو لم يتأخر طويلا، إذ اعتبرت المستشارة أنجيلا ميركل "أن الأوقات التي يمكن أن نعتمد فيها بشكل كامل على الآخرين قد انتهت إلى حد ما"، قبل أن تضيف بنبرة حادة وصارمة: "لا يسعني إلا أن أقول إنه يجب علينا نحن الأوروبيين أن نتحكم في مصيرنا".
لم يقف الانزعاج الذي أثارته التهديدات في دوائر الساسة بل تراخت آثاره أبعد من ذلك، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية بتنسيق مع مركز بحثي أوروبي نهاية العام الماضي، أن الخبراء ليسوا وحدهم من يتنبأون بتوتر أو سوء العلاقات الأوروبية الأمريكية لمصلحة محور واشنطن - موسكو. فضمن 11 ألف مقابلة عمَّت عينات من كل بلدان الاتحاد، يرى 55 في المائة من المستجوبين أن العلاقات الأمريكية الأوروبية ستسوء في عهد إدارة الرئيس ترمب. لا شك أن الاتحاد الأوروبي مدعو اليوم إلى مراجعة ما سماه زيجمار جابرييل في مداخلته حول "أي مستقبل لأوروبا" بالسرديات الكاذبة التي ترسخت في الوعي الجمعي الأوروبي، وعلى رأسها الحماية الأمريكية للقارة العجوز. وبالأخص بعدما أضاع في السنوات الماضية فرصة دخول أوروبا في شراكة مثمرة مع روسيا، لأن من شأن هذه الشراكة -لو تمت حينها- أن تؤسس لمحور جديد (موسكو-برلين- باريس) من شأنه أن يشكل قطبا عالميا مغايرا، يملك القدرة على مواجهة الهيمنة الأمريكية.

الأكثر قراءة