في واقع ما بعد الحداثة .. استعادة الأسطورة ضرورة
قيل إن التاريخ فعل، والفعل لابُد له من فاعل محدث، وبذلك تكون الأحداث التاريخية عبارة عن مجموعة من الأفعال. وقد قيل بأن الأشخاص هم الذين صنعوا التاريخ. فالتاريخ إذن صناعة؛ والصناعة لابد لها من أيادي مهرة، على هذا فإن التاريخ إما أن يكون صنيعة أشخاص أو أساطير.
تعتبر المؤلفة البريطانية كارين أرمسترونج؛ في كاتبها "تاريخ الأسطورة" (2005)، «أن البشر كانوا دائما صناع الأسطورة»، وبذلك تؤكد ما ذهب إليه أحدهم بقوله: «كلما بَعُدَ التاريخُ عن القصصِ والخيالِ، ازداد بُعْد العامة عن تذوقه وتعلمه».
وبذلك يمكننا القول بأن الأسطورة لم تنفصل عن التاريخ؛ فكل حدث تاريخي تسبقه وتسير بحذائه وتعقُبه أسطورة؛ صنوان لا يفترقان، ما يثبت أن ثمة علاقة حميمة بين التاريخ والأسطورة. وقبل أن يتحول التاريخ إلى علم مكتمل الأركان، يوثق ويحلل ويفسر ويستخلص العبر والنتائج، كانت الأسطورة فيما مضى تلعب دورا شبيها بهذا؛ إذ كانت وسيلة فهم وتفسير لكل ما غمض على الإنسان من ظواهر الكون.
كانت الأسطورة وسيلة الإنسان الأولى في المعرفة، إنها بحث من جانب العقل البشري الطفولي عن أجوبة لأسئلة شتى تعج بها الذاكرة، أو لنقل إنها ترقيع للنقص في ذاكرة الإنسانية عن الماضي. لذلك وصفت على الدوام بأنها "العلم البدائي"، أي أن بدايات الفروع العلمية العروفة اليوم ولدت من رحم الأسطورة.
تُعرف الأسطورة في ذاتها؛ وباختصار، بأنها مجموعة من الأكاذيب. بيد أنها أكاذيب كانت لقرون طويلة حقائق يؤمن بها الناس. ولها نصيب في إبداع ملاحم وروائع خالدة، ما يفرض احترامها بما فيها من تفاصيل عجيبة رائعة دون النظر إلى مجافاتها الحقيقة أو ما فيها من تناقضات.
ترى كارين آرمسترونج أن الأسطورة لدى الشعوب القديمة، كانت قصة مقدسة تتضمن تفاصيل حادثة وقعت في الزمن القديم، فهي بذلك قصة واقعية قطعية الثبوت، تخبرنا عن "حقيقة خيالية" في الوقت نفسه. قد يبدو هذا التعريف لكثيرين غير منطقي لما يشوبه من عدم التناسق واللامنطقية. إذ كيف يحدث أن يكون الشيء حقيقيا وخياليا في الآن نفسه؟
نقول هنا بأن الأسطورة قصة حقيقية؛ إذ أنها تحتوي على عنصر الحقيقة، فلابد أن يكون هناك عنصر حقيقي في كل أسطورة يعد بمثابة مركز الأسطورة. ثم تأتى الأجيال المتعاقبة لتتناول تلك الحقيقية، وتغلف ذاك الجوهر الواقعي بقشور من بنات أفكار تلك الأجيال أو معتقداتها. لذا يعمد الدارسون للأساطير حتى نزع تلك القشور عنها تباعا، حتى يصلوا إلى عنصر الحقيقة الذي تكونت منه الأسطورة في الأصل.
وهذا هو الفارق الجوهري بين الأسطورة والخرافة، فالأولى تختلف عن الثانية في توافرها على حقائق تاريخية. ففي أسطورة طروادة مثلا نتحدث عن حقيقة تاريخية، إذ ثبت تاريخا أن حروبا ضارية كانت بين مدينة طروادة في آسيا الصغرى والممالك الإغريقية في جنوب أوروبا. كما أكدت الحفريات الأثرية وجود آثار تدمير مدينة طروادة، بأسلحة الإغريق أكثر من مرة.
وعليه، فعنصر الحقيقة التاريخية قائم في أسطورة طروادة، قبل أن تتوالى الأجيال المتعاقبة محاولة أن يضيف بعض التفاصيل إلى القصة التاريخية. وبذلك تعددت الروايات بتعاقب الأجيال حول العوامل التي كانت وراء هذه الحرب الطاحنة. فهناك من تخيل أن سبب الحرب هو اختطاف هيلين الإغريقية وهروبها مع أمير طروادة. وقد يتخيل البعض الآخر أن السبب هو غضب الآلهة من أهل طروادة. وجيل ثالث تتخيل يعزي الأمر إلى رغبة الآلهة في تمجيد ذكرى بعض الأبطال الإغريق... إلى آخر تلك التفسيرات المختلفة لأسباب وتفاصيل اندلاع الحرب.
ما أكثر الشخصيات الأسطورية التي تعيش معنا في الوقت الراهن، دون أن ندرك الكثير عن أصلها وتفاصيل تخليدها، على الرغم من أن قصص البعض منها تروي حكاية ذات أحداث عجيبة خارقة للعادة. فأسطورة "سانتا كلوز"Santa Claus؛ المعروف في قصص الأطفال بـ "بابا نويل"، القادم من القطب الشمالي كي يوزع الهدايا على الأطفال في أعياد الميلاد، مستوحاة من قصة واقعية للقديس نيكولاس الذي عاش في القرن الخامس الميلادي، حيث يعمد أثناء الليل إلى توزيع الهدايا على الفقراء والمحتاجين من العائلات، دون أن تعلم هذه العائلات من هو الفاعل.
صفوة القول إذن أن الأساطير، على حد تعبير فراس سواح، «نظام فكري متكامل استوعب قلق الإنسان الوجودي، وتوقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه»، فالإنسان بطبعه؛ وعلى نقيض الكائنات الأخرى، كائن يبحث عن المعنى، ما يجعله يقع بسهولة في براثن اليأس.
وقد سميت الأسطورة فيما مضى بـ "الفلسفة المعمرة"، لأنها أرشدت المجتمعات إلى الطقوس والتنظيم الاجتماعي قبل مجيئ "الحداثة العلمية". إذ كانت على الدوام موقظة للنشوة لدى الفرد، حتى في وجه الموت واليأس اللذين يتولدان من تصور العدم والفناء. ومتى توقفت الأسطورة عن إحداث هذا التأثير، فإنها تموت وتصبح عديمة الفائدة.
اختصارا يمكن القول، بأن الأسطورة صممت لمساعدتنا على التعامل مع المآزق البشرية المستعصية، وإعانة الناس على تحديد موقعهم في العالم، وتحديد وجهتهم فيه. وهو ما كان عليه الأمر في العالم ما قبل الحديث، حين أضحت أمرا لا يمكن الاستغناء عنه، لأنها ساعدت الناس على جعل معنى لحياتهم. فإن سؤال استعادة الأسطورة من جديد في العالم بعد الحديث؛ ما بعد الحقيقة، قائم وبشدة، في ظل التيه الذي تعيش على وقعه أجيال بأكملها في العالم الحالي، ممن اختلط لديها الافتراضي بالواقعي والنسبي بالمطلق والحقيقي بالخيالي.