قمة السعودية .. رسالتان

قمة السعودية .. رسالتان

[email protected]

مع افتتاح قمة منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" في الرياض الأسبوع الماضي، أرسلت السعودية رسالة إلى المنتجين والمستهلكين. وفي ختامها أرسلت رسالة ثانية.
الرسالة الأولى تقول بعدم استغلال النفط واستخدامه أداة سياسية. والرسالة الثانية أتبعت خطا عمليا بإعلان تخصيص مبلغ 300 مليون دولار لصالح صندوق خاص بالأبحاث المتعلقة بحماية البيئة ومواجهة عمليات التغيير المناخي.
ومع أن الرسالة الأولى تم النظر إليها وكأنها رد على الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز، الذي تولى رئاسة القمة في الفترة السابقة، الأمر الذي وجدت فيه بعض وسائل الإعلام الغربية فرصة للغمز من قناة الرئيس الفنزويلي الذي لا تكن له كثيرا من الود، خاصة ويأتي الموقف السعودي بعد توبيخ علني لشافيز من الملك الإسباني خوان كارلوس، إلا أن محتوى الرسالة ومغازيها في واقع الأمر أعمق من ذلك، فهي تؤسس لمرحلة جديدة تقنن فيها "أوبك" ما ظلت تمارسه ويطلبه منها ميثاقها خلال السنوات الماضية، وفي قطيعة نهائية عما شهدته فترة السبعينيات، عندما دخل عنصر النفط عاملا في الصراع السياسي.
على أن الأهم في هذه الرسالة أنها تخاطب الحاضر كذلك، خاصة في الوقت الذي يسجل فيه سعر البرميل وبالمعدل الاسمي مستوى قياسيا، وهو ما يعود بالأساس إلى عوامل تتجاوز عنصري العرض والطلب، وتلعب فيها العوامل السياسية والأمنية دورا، وهو ما يتجاوز سيطرة المنتجين وتحكمهم في سعر البرميل، حتى وإن كانوا يقدمون للسوق الجزء الأكبر من الإمدادات. فالقاعدة التقليدية والانطباع السائد لدى المحللين أنه عندما تتصاعد نسبة الإمدادات التي تقدمها الدول الأعضاء في "أوبك" إلى السوق، تحتل المنظمة مقعد القيادة وتبدأ في فرض شروطها ذات البعد السياسي.
الرسالة الثانية من جانبها تخاطب الحاضر والمستقبل كذلك، وفي قضية أصبحت تكتسب اهتماما متزايدا، وهي المتعلقة بالتغيير المناخي، الذي بدأت بوادره. رسالة السعودية، التي يمكن القول إن "أوبك" اعتمدتها بصورة ما، تقوم على الاعتراف بالمشكلة، بدليل تخصيص موارد لصندوق الأبحاث. فحتى الآن ليس هناك رأي علمي قاطع حول مكونات وأسباب التغيير المناخي وحجمه وكيفية التعامل معه.
على أن الأهم من هذا أنه بهذا الموقف تسعى السعودية إلى إخراج قضية التغيير المناخي من محافل الاتهامات غير المؤسسة، سواء ضد النفط أو الدول المنتجة، إلى ساحة الحوار الجاد المستند إلى أبحاث وبعيدا عن إعلانات الاتهام وتحميل المسؤولية، ومن باب الهروب من المشكلة بدلا من مواجهتها.
فلفترة طويلة ظل النفط ومنتجوه متهمين بدورهم في عمليات تلوث البيئة ومن ثم التغيير المناخي، وهو احتمال قد يكون له سند من الواقع، لكنه يتجنب نقطتين أخريين: أن النفط ليس الأكثر تلويثا للبيئة من مصادر أخرى للطاقة مثل الفحم، كما أن المنتجين في النهاية يلبون احتياجات لمستهلكين غالبيتهم من الدول الصناعية، ذات الأنماط المعيشية الأكثر تلويثا للبيئة مما تقوم به الدول النامية.
الأمر الآخر أن النفط بالنسبة للعديد من الدول المنتجة، خاصة تلك التي تتمتع بعضوية "أوبك"، يمثل شريان الحياة بالنسبة لها، إذ يوفر لها العائدات المالية التي تتمكن عبرها من تسيير الأمور في بلدانها. وهذا ما ينبغي وضعه في الاعتبار، إذ لا يتوقع أن يطلب من بلد ما أن يضحي بمصالحه من أجل الآخرين ودون مقابل، وفي قضية لا تحظى بإجماع قاطع ونهائي حول مقوماتها وأبعادها العلمية.
هاتان الرسالتان تؤسسان لمرحلة جديدة في تاريخ المنظمة الذي قارب نصف قرن من الزمان، اجتمعت خلالها وعلى مستوى القمة ثلاث مرات فقط. السعودية ظلت عنصر اعتدال طوال تاريخها وفي الميدان النفطي، كما في الميدان السياسي. وإذا كان اعتدالها في موضوع السعر ينطلق من مصلحة مباشرة، وذلك للاحتفاظ بالنفط كأحد مصادر الطاقة المهمة ولأطول فترة ممكنة من الزمان، فإنها لا تناقض في هذا الموقف بقية المنتجين، ولا حتى المستهلكين، الذين ليس من مصلحتهم حدوث تقلبات سعرية ولا حتى التراجع إلى مستويات دنيا، تكون في حد ذاتها عاملا دافعا من أجل طفرة سعرية أخرى بالنسبة لبرميل النفط.
ما تحتاج إليه السوق فعلا تعاونا أفضل بين المنتجين والمستهلكين ابتداء من التعامل اليومي مع سعر برميل النفط وضبطه بما يسهم في توفير حافز إضافي للمنتجين للاستثمار في توفير طاقة إنتاجية تحتاج إليها السوق، وانتهاء بالقضايا الأكثر تعقيدا وتحتاج إلى وقت أطول للتعاطي معها مثل تلك لمتعلقة بالتغيير المناخي.
لقد ظل تعاون المنتجين والمستهلكين حلما عصيا على التحقيق ما عدا لقاءات المؤتمرات التي لا تسمن ولا تغني من جوع في أحيان كثيرة. وعل صندوق الأبحاث الذي ابتدرت الرياض عملية تمويله يوفر آلية للحديث في أمر محدد، ويمكن قياس النتائج التي يتوصل إليها والبناء عليها في مجالات أخرى تدريجيا.

الأكثر قراءة