في تجليات «علوان» .. الرواية «تحفة فنية»

في تجليات «علوان» .. الرواية «تحفة فنية»
في تجليات «علوان» .. الرواية «تحفة فنية»

حصد الروائي السعودي محمد حسن علوان جائزة البوكر لعام 2017 عن روايته الخامسة "موت صغير"، من بين 186 رواية مرشحة تمثل 19 بلداً عربيا. محمد حسن علوان المولود في الرياض عام 1979، صدرت له على مدى السنوات الماضية روايات "سقف الكفاية" (2002)، "صوفيا" (2004)، "طوق الطهارة" (2007)، و"القندس" (2011) التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2013، وفازت نسختها الفرنسية بجائزة معهد العالم العربي في باريس لأفضل رواية فرنسية مترجمة من العربية عن عام 2015. كما أصدر علوان كتاباً نظرياً بعنوان "الرحيل: نظرياته والعوامل المؤثرة فيه" (2014). وتتناول الرواية حياة الفيلسوف المتصوف محي الدين بن عربي منذ ولادته في الأندلس منتصف القرن السادس الهجري حتى وفاته في دمشق، تلك الحياة الزاخرة بالأسفار والمتاعب والصراعات ورحلته من الأندلس غرباً حتى أذربيجان شرقاً، مرورا بالمغرب الغربي ومصر والحجاز والشام والعراق وتركيا. ويستهل الروائي في الفصل الأول دواعي كتابة تدوين سيرته التي اختلف حولها الناس "قال السالك محي الدين بن عربي.." ، وهذه الحيلة تستدعي مستويات سردية بوليفونية أو متعددة الأصوات تعتمد على إعادة سرد الحكاية بطريقة معاكسة، ونجد في هذه الرواية الصوت الأول صاحب المخطوطة والصوت الثاني الذي يتابع رحلة انتقالها من حلب قبل 800 عام وتتبع مصيرها بين العواصم حتى وقوعها في يد أكاديمية مقيمة في فرنسا.

جغرافيا روحانية
تفتتح الرواية كل فصلٍ من فصولها الـ 100 بمقولات لابن عربي مثل: تتلون الحقيقة بوعي العارف كما يلون الماء بلون الزجاج، والسفر قنطرة إلى ذواتنا، ماخفي الحق إلا لشدة ظهوره، ونراه متسائلا: هل يعلمون أن الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيله؟ وهكذا نمضي في مطالعة رواية مشوقة تحكي بعمق عن رحلة البحث عن المطلق، ومثقلة بالاستعارات مثل قوله في الصفحة الأولى: ربما تركت الباب مفتوحا فدخلت سحابة هادئة، وتمر أمامك سحابة السريالي رينيه ماغريت في لوحته الشهيرة، ويظهر جليا تأثير الأسفار في صنع تحولات جوهرية في شخصية ابن عربي خلال محطات ترحاله مع صاحبيه بدر الحبشي وإسماعيل بن سودكين، "من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار"، والرواية لا تقف عند هذا الحد، فالرواي يؤرخ لوقائع تاريخية مفصلية طرأت على الأندلس من معارك الموحدين مع البرتغال، وحروب المماليك مع الصليبين في الشام، ونجد في الرواية خواطر عرفانية وتأملات كونية ومناخات روحانية وإشارات فلسفية ومسارات فيزيقية وتأويلات تاريخية واعترافات شخصية عن الآثار الماضية والاختيارات الشخصية واحتمالات المستقبل الآتي، يختصرها قائلا: "أعطاني الله برزخين: برزخ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني. رأيت أبي يضحك مستبشراً ببكره الذكر وزوجتي تبكي مفجوعة في زوجها المسنّ. رأيت فتيل دولة المرابطين يطفئه الموحدون في مرسيّة قبل ولادتي، ورأيت التتار يدكّون بغداد دكاً دكاً بعد مماتي. رأيت الأولياء يستبشرون بمولد سلطان العارفين والفقهاء يكبّرون لهلاك إمام المتزندقين. رأيت كل هذا بكشف الله الأعمّ ونوره الأسنى في سنوات قليلة بين برزخين. فانكشفت لي سرعة عبوري وضرورة فنائي في هذا العمر الذي ليس سوى سطر في رسالته الإلهية، لمعة شهاب في سمائه العلوية، أثر خفٍّ في أرضه الواسعة". أسلوب علوان مدهش بلا مبالغة، فهو يجمع بين نكهة معلوف وتفاصيل منيف، وهو بشارة غازي القصيبي بميلاد روائي موهوب يتقن كتابة الملاحم، ويستعيد في هذه الرواية الرائعة قراءة التاريخ عبر سرد متواصل للأحداث والمرويات ضمن سياقها، ولاستعادة حضور تلك الشخصيات الساحرة مثل ابن رشد والتبريزي، ولا سيما قصة الحب الشهيرة بين ابن عربي ونظام ابنة شيخه زاهر الأصفهاني عندما أغرم بها، وألهمته قصائد ديوانه الأشهر «ترجمان الأشواق».
عنوان الرواية مستوحى من إحدى مقولات ابن عربي الشهيرة "الحب موت صغير"، وهو بالمناسبة عنوان لقصة صغيرة لغاليانو يفسر بها هذا الشعور الغامض: لا يحركنا الحب نحو الضحك في النقطة الأعمق من رحلته، ذروة تحليقه، في أعماقه وأعاليه، ينتزع منا الصرخات والأنين، تعبيرات الألم، مهما كانت مرحة، وعندما تفكر فيه لا يكون غريبا لأن الولادة متعة مؤلمة. ويسمي الفرنسيون ذروة العناق الموت الصغير، الذي يجمعنا فيما يفرقنا، ويعثر علينا فيما يفقدنا، وهو بدايتنا كما هو نهايتنا. يسمونه صغيرا لكنه ينبغي أن يكون عظيما هائلا لكي ينجبنا كما يقتلنا. والحب كما يقول عالم النفس إريك فروم ليس إحساسا عاطفيا يمكن للإنسان أن ينغمر فيه بسهولة بغض النظر عن مستوى النضج الذي وصل إليه، ولذلك جميع محاولاته للحب محكوم عليها بالفشل ما لم يحاول تطوير شخصيته الكلية وتنميتها، وذلك الإشباع للحب الفردي لا يمكن الحصول عليه بدون مقدرة على محبة الجار وبدون التواضع والشجاعة والإيمان.

القارئ هو الملك
رواية «موت صغير» تستحق البوكر بجدارة، وتبدو روايات علوان السابقة مجرد تمارين لكتابة هذه الرواية العظيمة بمقاييس القراء والنقاد، ولأن علوان لديه دكتوراه في التسويق ساعدته علي الاستجابة لرغبات قرائه الذين ملوا من التهويمات الغرامية والشخصيات المقهورة التي تبعث على الكآبة في رواياته السابقة، وكان القراء على موعد مع تحفة أدبية من 600 صفحة بلغت درجة التشويق فيها حد الاندماج في عالم صنعته مخيلة علوان الذي رسم بنجاح كبير ملامح شخصية إشكالية في التراث العربي مستفيدا من أخبار ابن عربي ومؤلفاته وأشعاره في صياغة سيرته بتفاصيل حقيقة وإيقاع سريع عن سيرة إنسانية لمتصوف زاهد يسعى لتطهير قلبه وتزكية نفسه بعيدا عما يشاع عنه من كرامات زائفة أو أساطير ملفقة.

الأكثر قراءة