دور المضاربين في ارتفاع أسعار النفط
مازالت أسعار النفط تواصل ارتفاعاتها في هذا العام وخصوصاً في الربع الأخير عندما سجلت أرقاما قياسية كسرت حاجز 90 دولاراً أمريكي للبرميل في بورصة نيويورك التجارية وتتجه لمستوى 100 دولار عند كتابة هذا المقال (نوفمبر)، حيث سجل النفط الأمريكي أكثر من 96 (96.24) دولار للبرميل، وهو أعلى مستوى للأسعار منذ بدء تعاملات العقود الآجلة في بورصة نايمكس عام 1983م، ومتزامناً مع تنفيذ منظمة أوبك بزيادة إنتاجها بـ 500 ألف برميل يوميا.
ومع حالة التوتر النسبي للعلاقات بين العرض والطلب بسبب عوامل تتعلق بالمديين المتوسط والبعيد وفي ظل المعطيات المتوافرة، من نمو اقتصادي مستمر، ووصول الطاقة الإنتاجية إلى الحالة القصوى وافتقاد منظمة أوبك المقدرة والمرونة في مواجهة الأحوال الاستثنائية الظرفية وتلبية الاحتياجات التي قد تطرأ من نقص في الإمدادات بسبب أي توتر جيوسياسيه أو عوامل ظرفية عارضة أخرى كالطقس من أعاصير وما شابها في مناطق الدول المنتجة والتوقعات بزيادة الطلب على النفط في العام المقبل وبلوغ المصافي حدها التكريري الأقصى، إضافة إلى الظروف المحيطة به كالتضخم وضعف الدولار، يدخل دور المضاربات في أسواق النفط العالمية تلمساً للأرباح السريعة.
وبالرغم من أنه عنصر انتهازي يأتي كرد فعل ناتج عن المعطيات والعوامل الأساسية المؤثرة مباشرة في أسعار النفط العوامل الأساسية والفعلية التي تتسبب في نقص المعروض في ظل الفجوة بين الطلب والعرض، إلا أن أوبك تعد هذا العنصر الانتهازي، أي عنصر المضاربة، عاملاًً من العوامل المؤثرة في ارتفاع أسعار النفط، وأصبح هدفاً لأوبك لإلقاء اللوم عليه في ارتفاعات أسعار النفط. فما مدى صحة هذه التبريرات؟ هذا ما سنلقي الضوء عليه هنا لتوضيح مدى صحة التبريرات من عدمها بأن أسعار النفط العالية مردها المضاربون في أسواق النفط.
يعد النفط أكثر السلع الاستراتيجية تداولاً في العالم ويمثل العصب الصناعي لدول العالم قاطبة، وتصاحبه أزمات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وحتى مناخية. وأسعار النفط متذبذبة بين الهبوط والارتفاع تفاعلاً مع تلك العوامل.
ومنذ أن اتسعت الفجوة بين العرض والطلب والسوق النفطية قائمة على المخاوف من نقص الإمدادات، مما يجعل الساحة مفتوحة للمستثمرين والمضاربين ولا سيما مع تزامن ضعف الدولار الأمريكي. الذي يستخدم لتسعير النفط. وكما هو معروف فإن تجارة النفط العالمية تسجل بالدولار الأمريكي ويتم تسعيره بالدولار منذ أمد بعيد ولأسباب تاريخية وسياسية لا يتسع المجال لشرحها، ويتم استخدام عملة الدولار لدفع أكثر من نصف صادرات العالم، ويبلغ حجم التداول بالدولار الأمريكي نحو ثلاثة تريليونات دولار. وأكثر من ثلث احتياطيات النقد الأجنبي في العالم ترصد بالدولار، وأكثر من ثلاثة أرباع مبادلات أسعار الصرف الأجنبي في العالم تتم من خلال الدولار الأميركي.
وأدت سياسة خفض معدل صرف سعر الدولار الأمريكي التي اتبعتها الحكومة الأمريكية في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع أسعار النفط وكذلك ارتفاع قيمة العملات الرئيسية الأخرى مقابل الدولار، وهو ما ساعد على تعزيز عمليات الشراء في مختلف السلع الأولية، حيث يرى المستثمرون أن الأصول المسعرة بالدولار رخيصة نسبيا بما فيها البترول. فعلى سبيل المثال فإن أسعار النفط الحالية وبعد احتساب التضخم وفروق أسعار الصرف، لا تزال دون أعلى مستواها التي بلغته في شهر أبريل (نيسان) 1980م حيث بلغ سعر البرميل آنذاك نحو 102 دولار، كما إن دول الاتحاد الأوروبي التي تتعامل باليورو استفادت من انخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي ولم تعان من ارتفاع أسعار البترول مقارنة بالولايات المتحدة. فالقيمة الحقيقية لأسعار النفط التي بلغت حاليا نحو 96 دولارا للبرميل تبلغ ما يعادل من حيث القيمة الحقيقية Price in real terms نحو 45 دولارا للبرميل تقريبا في ظل عامل التضخم وسعر الصرف.
لقد تسبب ضعف العملة الأمريكية وأزمة التمويل العقاري الأمريكية في تدفقات الاستثمارات من صناديق المعاشات وصناديق التحوط على السلع الأولية وخصوصاً النفط نظراً لأن تسعيره يتم بالدولار، وفي ظل التوقعات بزيادة الطلب عليه نتيجة للعامل الأساسي المؤثر في زيادة الطلب العالمي المتزايد بسبب النمو الاقتصادي ودخول مستهلكين جدد كالصين والهند ودول شرق آسيا. وليس بغريب أن تزدهر المضاربات في أسواق الطاقة في السنوات القليلة الماضية مع تطلع المستثمرين لتحقيق عائدات أعلى من التي يحققونها في أسواق الأسهم والسندات. فالمستثمرون يسعون للحفاظ على نمو رأس المال، ويستخدمون النفط ملاذا آمنا في مواجهة ضعف الدولار الذي يعد أحد العوامل الأساسية المؤثرة في ارتفاع أسعار النفط حيث ارتفعت أسعار النفط الأمريكي منذ آب (أغسطس) الماضي بنسبة تصل إلى 50 في المائة أو 40 دولارا.
والمستثمرون يشترون كميات كبيرة من النفط في البورصات النفطية فيما يعرف بالبراميل "الورقية" التي يزيد عدد صفقاتها على خمسة أمثال صفقات التعامل في النفط الحقيقي، على أمل البيع مستقبلاً بثمن أعلى من السعر السائد وقت الشراء. والمضاربون في أسواق النفط، كأي مستثمر، يتابعون المؤشر الاقتصادي الخاص بالنفط في البورصات العالمية منذ وقت طويل، وأصبح للمؤشر دور مهم وعاملا لا يستهان به في تحديد التوجهات العالمية لأسعار النفط الخام، وأسواق النفط مثلها مثل أسواق الأسهم الأخرى تتأثر بالمضاربات والإشاعات والأخبار المتعلقة بالقلاقل وعدم الاستقرار السياسي في بعض دول الأوبك كالنزاع في العراق والملف النووي الإيراني أو النزاع الداخلي في فنزويلا أو القلاقل في نيجيريا وتأثير اتساع العجز التجاري الأمريكي وقوة الدولار من ضعفه أو أحوال الطقس أو نقص المخزونات في الدول الصناعية، وكل ذلك يجعل المضاربين يتهافتون على الشراء مما يخلق فارقاً كبيراً في السعر أو ما يسمى فقاعة مضاربات، ويرفع سعر برميل النفط إلى أعلى من سعره بفارق قد يبلغ ثلاثة دولارات. وعليه فبالرغم من أن المضاربة في أسواق النفط ربما ترفع الأسعار بفارق قد يصل بحد أقصى إلى ثلاثة دولارات، إلا أنها تبقى من العناصر الهامشية في زيادة الطلب على النفط لأن دور المضاربين لا يتعدى كونه دور رد فعل سريع نتيجة أحد أو بعض العناصر الاستثنائية أو الظرفية التي تؤثر مباشرة في العرض والطلب، وكرد فعل فإن تأثيرهم يزول بزوال تلك العوامل المؤثرة في المعروض النفطي.
*استراتيجي وخبيرفي شؤون النفط