المترجم محمد حنا: بورخيس لعنة .. ونحن عيال في حجره
محمد آيت حنا من الأسماء المغربية الشابة الواعدة في مجالي الكتابة
والترجمة، مهتم بالفلسفة والأدب والجماليات والترجمة. أكمل دراسته
العليا في الفلسفة وتاريخ العلوم، ثم حصل على التبريز في الفلسفة.
تراوح أعماله بين مجال التأليف ورحاب الترجمة، ففي الأول نجد: “عندما
يطير الفلاسفة”، “الرغبة والفلسفة، مدخل إلى قراءة دلوز وغوتاري”،
“القصة والتشكيل: نماذج مغربية”، “مكتباتهم”. وفي الثاني له:
“الغريب” )ألبير كامو(، “الدفتر الكبير”، “الأمية”، “البرهان” )أغوتا
كريستوف(، “مذكرات جسد” )دانيال بيناك(، “جورج الموريسي، حكاية
عن البر والبحر” )ألكساندر دوما(.
أهلا بك محمد آيت حنا، لنبدأ حديثنا بآخر إصدار لكم موسوم بعنوان "مكتباتُهم" عن دار توبقال للنشر، كثير من القراء - وأنا ضمنهم - "خدعهم" العنوان. ماذا تقول بخصوص عنوان الكتاب الذي أدخلنا إلى أزيد من 30 مكتبة؟
بينما يتشكّل متن الكتاب الذي دام الاشتغال عليه بضع سنوات لم تكن لديّ أدنى فكرة عن مآله، وبالتالي قد أزعم أنّني لم أكن أملك فكرة عن العنوان ما دام عنوان الأثر الأدبي بمنزلة الاسم الذي يأتي بعد أن يوجد الموجود أولاً. لكن الواقع أنّه كان لديّ منذ البداية عنوانٌ رافقني طيلة اشتغالي على الكتاب، كنت سأعنونه بـ "فكرة المكتبة"، تغيير العنوان أتى لاحقاً ساعة النّشر، - ولأستاذنا عبد السلام نصيب منه - حين بدأت تتشكّل لديّ قناعة أنّ الأمر لا يتعلّق بمكتبتي، أو بفكرتي عن المكتبة، بقدر ما يتعلّق بـ "مكتباتهم"، مكتبات أولئك الذين ليست مكتبتي سوى ملحقٍ جانبي وهامشي على مكتباتهم وأعمالهم. عموماً العنوان يحقّق جزءاً مهمّا من رهان الكتاب رهان المخاتلة والكذب.
تعتبر في الكتاب أن المكتبة عبارة عن نظام صارم، هو نفسه النظام الموجود في المتاحف. لكنه نظام متغير أيضا ـ ثم لا تلبث تقول في مكتبة بنيامين فالتر "المكتبة خط بين نقطتين، مسار مهما تشعب وطال له بداية ونهاية". في أي المكتبتين يجد محمد ذاته؟
أجدني ما بين في العتبة بين المكتبتين، المكتبة المتحف ومكتبة بنيامين؛ أي أنّ مكتبتي "وهذا أمر واقعيّ لا مجازيّ" تقوم في آن على فكرة الحفظ والإفناء، عندي مجموعة كتب مثل التحف النادرة، مواقعها ثابتة لا تتغيّر، ولا تُعار أو تغادر مأواها، وليس للزائر سوى التّملي فيها وفقط، لكن عندي كثير من الكتب الأخرى التي تعيش حياة دائرية، قد ترتفع حتى تبلغ أعلى القمم، ثمّ تسقط في المهاوي السحيقة. كثيراً ما أتخلّص من الكتب، أهديها أو حتى أتخلى عنها ببساطة. لا معنى لمكتبة لا تجدّد نفسها على الدّوام، وفكرة جمع الكتب دون توقّف هي بالنسبة إلي مسألة بليدة. الأمر إذن أشبه بمكتبة السي أحمد بوزفور، الموزّعة ما بين الثوابت "الكتب التي لا تتغيّر ولا تغادر صدر المكتبة" والمتغيّرات، تلك الكتب التي لا يحزننا حقاً مصيرها وما قد تؤول إليه.
لنعد إلى الترجمة التي تقول إنها: "لا تقل إبداعا عن أي جنس أدبي"، لنستحضر مقولة إرنست رينان "إن الأثر غير المترجم يعتبر نصف منشور". كيف تتلقى هذا القول من موقع المترجم الذي خبر دروب الترجمة؟
ما أبلغه من تعبير هذا الذي استعمله رينان! لا يضاهيه إلا قول فالتر بنيامين "نصّ لم يترجم بعد هو نصّ يبكي حداداً على نفسه". الترجمة حياة جديدة للنّص، النّصوص كائنات حيّة، لكنّ أغلبها يعيش إمّا في سبات أو غيبوبة، وخروجه من الحالتين رهين بالقراءات والتعليقات والشّروح. لكنّ الترجمة لا تتوقّف عند حدّ إحياء النّص وإخراجه من غيبوبته، إنّما جعله يضطلع بتجربة عيش حيوات متعدّدة بتعدّد الترجمات التي يحوزها. إذا كان المتصوفة يقولون "إنّ الطّريق بعدد السّالكين"، فالنّص أيضاً بعدد المترجمين.
يقول الجاحظ "لقد نقلتُ كُتب الهند، وترجمتُ الحكم اليونانية، وحوّلت آداب الفرس فبعضها ازداد حسنا وبعضها ما انتقص شيئا"، بتعبير آخر إن الترجمة قد تهضم روح العمل المترجم وقد تُنعشه. وأنت واحد ممن يترجم بطريقة تجعل القارئ يعيش في سطور الكلمات، وكأنك من كتبها لا من ترجمها "ثلاثية أغوتا كريستوف نموذجا". هل لنا بمعرفة السر؟
يسعدني حقاً تجاوب القراء مع أغلب ما أترجمه. أرى تجربتي على العموم فتية وفي بداياتها، وبقدر ما أراكم من نجاحات بقدر ما تنطوي عليه أعمالي من هنّات ومعاطب، ما زلت أجاهد في التّغلب عليها. لكنّي أحاول قدر الإمكان الإنصات إلى النّص الذي أترجمه وأسعى في المقام الأوّل إلى إحداث أثر مشابه للأثر الذي أحدثه النّص الأصل في لغته الأمّ. كما أحاول جاهداً أن أعتني بلغتي العربيّة، لأنّها هي المنتوج الذي يصل في نهاية الأمر إلى القارئ. ترجمة جيدة في اعتقادي لا يمكن أن تقوم إلا على هذين الأسّين: الإنصات إلى النّص الأصل وإدراك الأثر الذي يسعى إلى إحداثه من جهة، ومن جهة أخرى الاشتغال على اللّغة المنقول إليها.
تقول إن الكتابة شبيهة بالركض، إذ إن المرء لا يستطيع التخصص في كل المسافات، "لقد خلقنا للركض في مضمار بعينه". أي المضمارين أقرب إلى نفسك الكتابة أم الترجمة؟
مضماري الفعليّ هو القراءة، وفي الممارستين معاً أنا قارئ، أستمتع بقراءة النّصوص عبر ترجمتها، "الترجمة وسيلة للقراءة عميقاً"، وكتابتي في أغلبها استعادة لمقروئي. تقريباً أتعيّش في الحالتين على ما يكتبه الآخرون. لذا لا يتعارض المسعيان عندي بقدر ما يتكاملان. أنا قارئ مترجم- قارئ كاتب.
بصراحة كنا نظن أن النزعة البورخيسية في التأليف انتهت، لكنك تصر على إحيائها بأسلوب رشيق وجملة متوترة في كتاباتك. هل من مشاريع مستقبلية في ذات المنحى؟
بورخيس لعنة أكثر منه نزعة. نحن مجرّد عيالٍ في حجره. لا أدري صدقاً هل ستسير كتاباتي المقبلة في نفس المنحى. اشتغل على عمل جديد يتناول تيمةً من التيمات الأثيرة عند بورخيس "وأصّر على أنّها صدفة" وهي تيمة "القرين"، لكني سأحاول هذه المرة أن أبتعد قدر الإمكان عن نزعة بورخيس في الكتاب. أخشى أن يصير الأمر بمنزلة "التيكيت" الذي يُلصق بي، وأنا حقاً لا قدرة لي على مقارعة كاتب من قامة بورخيس، ولا حتى أن أكون ظلّه. أما مشاريع الترجمة فمستمرّة في نفس المنحى: أترجم النّصوص التي أحبّها والتي أرى أنّها قد تقدّم للثقافة العربية إضافة أسلوبيّة في المقام الأوّل.
في آخر سؤال نريد منك تعليقا على ثلاث كلمات في إجابات سريعة: "بيت الحكمة"، "إدمون كاري" و"عبدالفتاح كيليطو".
بيت الحكمة: سأختار منطقياً من بين كلّ المؤسّسات التي سمّت نفسها بيت الحكمة، بيت الحكمة الأصل، بيت الحكمة العباسي فأقول: ثمّة نوع من المصابيح العبقرية التي تثير دهشتي، توجد عادة في الحدائق، مصابيح تجمّع ضوء الشّمس نهاراً، وفي اللّيل تضيء دون حاجة إلى كهرباء. كذلك كان بالنّسبة إلي بيت الحكمة العباسي، أعظم تجربة تنويريّة في تاريخنا، تجربة تجمّع العلم حيث لا نعتقد أنّنا بحاجة إليه، ثمّ تخرجه نوراً حين يعوزنا النّور... واليوم للأسف تكاد تنطفئ كلّ المصابيح حتى أشدّها بدائيّة.
إدمون كاري: مرآةُ ترجمة صقيلة، لكن لسوء حظّي "أو لحسنه" ليست من المرايا التي تعكس وجهي.
كيليطو: الخيال العربيّ الأكمل.. يستطيع أن يحوّل التأمّل في حبّة جوز إلى أوديسا.