فقه التحقيق

فقه التحقيق

عند قراءة قول الله تعالى: ?وكذلك جعلناكم أمة وسطا?، نرى فيه ثناء على هذه الأمة بكونها أمة وسطا، وفي مُتضمن هذا الثناء دعوة للقصد بالأمة إلى تحقيق هذا المقام، ومن صور السعي في تحقيق هذه الوسطية ما يكون عاما في حق الأمة، ومنها ما يكون خاصا في حق من له عناية بمقام العلم والفتوى، ومن جملة ذلك أن يقصد صاحب الفتوى إلى سلوك الطريق الوسط في حمل الناس على ما يختاره من الأقوال، فلا يقصد إلى وجه من الإغلاق يغلب فيه احتياطه لنفسه وإبراء ذمته كما يظنه بعض من له نظر في المسائل، ولا ينحى بهم أيضا إلى وجه من تتبع الرخص يتحصل عنه نقص في لزوم مقام الاتباع والانقياد لأمر الله ورسوله، فإن هذين الوجهين يحصل بهما تأخر عن مقصد الشارع في وسطية هذه الأمة.
وهذا التأخر تارة يكون متمثلا في صور من العنت والحرج الفقهي التي لم تأت الشريعة بمثله. وتارة يكون بنوع من التفريط الذي هو من مظنة اتباع ميل النفس وذوقها، ومن هنا ينبغي لمن تصدر مقام الفتوى ألا يسلك منحى واحدا من الفتوى فيقصد إلى الميل إلى مقام الرخصة بإطلاق، أو إلى مقام العزيمة بإطلاق، بل كل مسألة لها مقام من معتبر الشريعة، واعتبار اليسر لا ينافي تحقيق مقام الاتباع، أو القصد إليه.
والخلاف الفقهي وإن كان في كثير من موارده من أوجه الرحمة بهذه الأمة، إلا أن هذه الرحمة لا تعني بالضرورة التزام الرخصة من الأقوال بحجة دفع المشقة عن المكلفين، ولا تعني الأخذ بالأغلق من أقوال أهل الاجتهاد، وأنت ترى أئمة الفقه الكبار كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة في أقوالهم عزم وفي أقوالهم يسر، وهذا عند التحقيق هو من أوجه التنوع بحسب كل مسألة ومعتبرها من الاجتهاد.
والقصد أن مفهوم التوسط المراد إدراكه في هذا المقام ليس وجها من تتبع الرخص، كما أنه ليس دعوة إلى الأخذ بالأغلق، وإنما هو مقام من التحقيق بينهما تقتضيه الأدلة، وهذا فقه لا يحسنه كل أحد، إلا من أوتي عارضة في العلم، وحسن نظر في أدلة الشريعة، وفقها لمقاصدها، وتمييزا لموارد اللزوم عن موارد الرخص، وسدادا وتوفيقا في الأمر، فإن الكمال من كل وجه مختص بمقام صاحب الرسالة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا). والله الهادي.

الأكثر قراءة