غموض واطمئنان

غموض واطمئنان

الحالة التي تمر بها السوق النفطية في الوقت الحالي تبدو نموذجية كونها تشتمل على كل ما عانت منه السوق في السابق بمختلف الأوضاع. فهناك السعر العالي، وهناك الدعوات المتصاعدة لمنظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) أن تتدخل لفعل المزيد، أي ضخ المزيد من الإمدادات. بل وهناك من يرى فيما يجري مناسبة لتسوية حسابات قديمة بتحميل (أوبك) متاعبه الخاصة ورفع غطاء الحصانة الدبلوماسية عنها لتصبح عرضة للمقاضاة والمحاكم من المتضررين الذين يرون في (أوبك) كارتلا تجب محاكمته بسبب الوضع السعري لبرميل النفط الذي ينعكس على كل مناحي الحياة، إذ يظل قطاع المواصلات الأكثر استهلاكا، ومن ثم الأكثر تأثيرا في الجمهور العريض، خاصة وهناك انتخابات هنا وهناك.
لكن من الناحية الأخرى، فرغم أن سعر البرميل وصل إلى أعلى معدل له عبر التاريخ ولو من الناحية الاسمية، إلا أن تأثير ذلك في الاقتصادات العالمية ظل محدودا وبصورة كبيرة. فلم تصل معدلات التضخم إلى مستويات كبيرة تهدد الرفاه الاقتصادي مثلما حدث إبان الصدمة النفطية الأولى قبل عقود ثلاثة، والتحركات الأخيرة لمجلس الاحتياط المركزي الأمريكي برفع معدلات الفائدة تبدو وسيلة لضبط احتمالات انبعاث وحش التضخم مرة أخرى. لكن تحسن فاعلية الأداء الاقتصادي والتحول إلى قطاع الخدمات ليكون القطرة الرئيسية للأداء الاقتصادي، وهو قطاع يستهلك طاقة أقل بطبيعته ومقارنة بما يستهلكه قطاع الإنشاءات أو التصنيع مثلا يبدو أنهما لعبا دورا كبيرا في تحمل المعدل السعري العالي حتى الآن.
تضعضع سعر الدولار، عملة تجارة النفط الرئيسية مقابل العملات الأخرى، خفف من ناحية أخرى من حجم الضغط الذي كان يمكن أن يقع على المستهلكين، هذا إلى جانب بروز قوى مستهلكة جديدة لم تكن في الحسبان في السابق، والإشارة إلى منظمة الدول النامية، خاصة الصين والهند ومنطقة الشرق والجمهوريات السوفياتية السابقة، التي أصبح النمو في استهلاكها النفطي ومن ثم في الطلب يعوض عن التراجع في الطلب في الدول الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي خاصة الولايات المتحدة.
ورغم هذا كله، فإن (أوبك) يبدو أنها بدأت تستشعر خطر استمرار التصاعد في سعر البرميل، وهذه ظاهرة حسنة. فأحد متاعب الصدمة النفطية الأولى، وكان كل ما يجري فيها جديدا على الكل، غياب الدروس السابقة والمرجعيات التي يمكن الاهتداء بها في معالجة أوضاع السوق. نظرية المنتجين من أصحاب الاحتياطيات القليلة الذين لا يهمهم المدى السعري الذي يمكن أن يصل إليه البرميل وأولئك من أصحاب الاحتياطيات الضخمة الذي يطالبون بتباطؤ في خطوات رفع السعر، لا تشهد رواجا في الوضع الحالي رغم تراجع قوة الدولار، وقد يعود هذا إلى الاستفادة من دروس الماضي، وما أكثرها وأعظمها!
لكن واقع الحال يشير إلى أنه ومن الناحية العملية البحتة، فإن أفضل تغيير مرت به المنظمة فيما يبدو يتمثل في الطريقة التي تدير بها سياستها وأوضاعها. والمقارنة تبدو جلية، ففي السابق كانت الحركة محكومة إلى حد كبير باجتماعين خلال العام، وهو ما أدى إلى حالة من الجمود وعدم اللحاق بتطورات السوق التي تتطلب قرارات سريعة وحاسمة، ثم جاءت فترة من الوقت أصبحت للمنظمة القدرة على التحرك بمرونة أكبر، بل ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى التشاور الهاتفي وإنفاذ قرارات بهذا الشأن. كما وصلت المرونة إلى تعميد قيادة ثلاثية من السعودية وفنزويلا والمكسيك لإدارة السوق في فترة من الفترات.
ورغم أن الأمور في شكلها الرسمي لا تزال تتطلب لقاءات وإصدار قرارات، إلا أنه في الواقع العملي فإن السعودية ظلت وستظل هي المرجعية الأساسية لتحريك السوق، لا بسبب احتياطيها الضخم أو قدرتها الإنتاجية العالية ومنافذها التصديرية المتعددة، بل أهم من ذلك احتفاظها بطاقة إنتاجية فائضة تظل هي شبكة الأمان الأساسية للسوق حال حدوث انقطاع في الإمدادات لأي سبب من الأسباب. هذا إلى جانب سياسة تضع في حسبانها كل المتغيرات ومصالح الآخرين، الأمر الذي يعطيها مصداقية وديمومة تمت تجربتها عبر السنين.
ولهذه الأسباب، فعندما قررت (أوبك) خفض سعرها الرسمي لأول مرة في تاريخها في مطلع عقد الثمانينيات ووضع سقف إنتاجي وحصص مخصصة لكل دولة عضو، ترك للسعودية دور المنتج المرجح، الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه في إطار خمسة ملايين برميل يوميا وفق حالة السوق. لكن تلك التجربة لم تنجح بسبب عدم الانضباط، ما أدى بالسعودية إلى تحمل أخطاء الغير وتجاوزاتهم لحصصهم، وهو وضع لم يكن ليستمر.
رسميا ليس هناك منتج مرجح، ولكن في الواقع العملي فإن الرياض تلعب دور قائد السوق الذي يتصرف من واقع قدراته وخبراته، وهو ما يوفر شيئا من الاطمئنان لمواجهة حالة الضبابية وعدم الوضوح التي تميز وضع السوق الحالي. فهناك مرتكز يمكن الالتجاء إليه حتى تتضح الرؤية بصورة أو أخرى.

[email protected]

الأكثر قراءة