استثمارات الوافدين .. «قضية» للنقاش
توضع الأنظمة واللوائح لظروف معينة تتغير بمرور الزمن إلا أن الأنظمة واللوائح تبقى ثابتة لسنوات طويلة رغم التغيرات الأمر الذي يجعلها معوقة أكثر من كونها مفيدة، بل إن كثيرا منها ينشئ واقعا وثقافة يصعب مساسها أو التطرق لها لحدة مقاومة أفراد المجتمع لكل من يفكر في تغيير هذا الواقع رغم مساوئه نتيجة التغيرات التي بات بعضها متسارعا ويتطلب مواكبة نظامية وإجرائية مرنة قادرة على مجاراة التغيرات لمصلحة البيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتطورة.
يزداد تمسك أفراد المجتمع بما اعتادوه من أنظمة ولوائح وتكيفوا معها إذا كانت الثقافة السائدة تقاوم التغيير وتتمسك بالمعتاد والسائد بشكل كبير، ومقاومة التغيير سمة لدى كل البشر إلا أن حدتها تزداد لدى المجتمعات المنغلقة وشبه المنغلقة جغرافيا كما هو حال كثير من مدننا وقرانا، ويخف التمسك بالمعتاد والسائد كلما انفتحت هذه المجتمعات على المجتمعات الأخرى وأصبحت أكثر مرونة وتقبلا للتغيير وهو ما بدأنا نشعر به في مجتمعاتنا المنغلقة جغرافيا نتيجة السفر للدراسة والسياحة ونتيجة للانفتاح الإعلامي الهائل خصوصا بعد ثورة الإعلام الرقمي.
من القضايا التي اعتدناها وسادت لدينا منع الوافدين من الاستثمار والتملك في بلادنا إلا في نطاقات ضيقة وبشروط يصعب تحقيقها إلا فيما ندر، ولذلك فالوافدون في بلادنا يخضعون لنظام الكفيل، حيث يستقدمون للعمل لدى المستثمرين السعوديين الذين يحميهم النظام من منافسة الوافدين التي كانت تصعب عليهم فيما مضى من العقود، ولقد كان نتيجة ذلك استحواذ المواطنين على معظم الاستثمارات في البلاد بشكل نظامي سليم أو بشكل غير نظامي تحت ما يسمى التستر، حيث يظهر أمام الأجهزة الحكومية أن المستثمر هو المواطن، إلا أن المستثمر الحقيقي هو الوافد المكفول الذي يعطي المواطن صاحب الترخيص في العادة مبالغ مقطوعة أو نسبة من الأرباح.
الدولة جرمت التستر وحاربته وضيقت الخناق على المتسترين والوافدين المستثمرين بالتستر ومن ذلك متابعة الحسابات والتحويلات المصرفية كما حفزت المواطنين للتبليغ عن حالات التستر، إلا أن كل ذلك لم يعالج ارتفاع حجم الاقتصاد الخفي الذي يسهم التستر في زيادته مثل زيادة تداولات النقد خارج المصارف. كل ذلك أدى لعدم دقة حساب إجمالي الناتج المحلي وعدم قدرة الدولة على تحصيل الضرائب المفروضة على المستثمرين الوافدين، كما أن كل الإجراءات لم تستطع معالجة مشكلة التستر التي تتزايد على الرغم من شكوى المستثمرين في المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
و«داوها بالتي كانت هي الداء»، مسار استراتيجي متبع لمعالجة كثير من المشاكل ويبدو لي أن هذا ما فكرت فيه وزارة التجارة بما أعلنه وزيرها الدكتور ماجد القصبي الذي قال يوم الإثنين الماضي عقب تدشينه بداية إطلاق السوق الموازية "نمو" إن ظاهرة التستر التجاري ظاهرة غير صحية ومضرة بالاقتصاد الوطني، وإن الوزارة أعدت دراسة متكاملة حول مسبباتها، وإن الدراسة تتضمن وضع خطط لمعالجة تلك المسببات وتعديل الأنظمة. حيث يصبح للوافد الحق في الاستثمار ضمن ضوابط ومعايير محددة ودفع ضريبة بشكل واضح دون أن يضطر للتخفي، وحتى نحافظ على حقوق الدولة.
الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة خصوصا في مجال الخدمات والتجزئة إضافة إلى الاستثمار في غير المجالات الحيوية التي تنقل المعرفة والتقنية كالصناعات الثقيلة والصناعات التقنية تواجه رفضا من المجتمع نتيجة سيادة المفاهيم السلبية بشأن الاستثمار في هذه المجالات، ونتيجة لتجربة مريرة سابقة حيث استغل الوافدون ممن استثمروا في منشآت المائة ألف ريال منشآتهم لأهداف أخرى. ولذلك يجب فتح "نقاش" مجتمعي حيال هذه القضية لمعرفة جميع مسببات القلق ومعالجتها نظاميا وإجرائيا قبل إصدار أنظمة الاستثمار الجديدة المتعلقة بالوافدين.
التعليقات التي رأيتها على الخبر في موقع تويتر مبشرة وتشير إلى انفتاح مجتمعي على مثل هذا القرار، وتشير إلى أن الكثير بات يدرك أن الاستثمار الأجنبي الخفي المتستر بالاستثمار السعودي بات يشكل جزءا مهما من الدورات الاقتصادية في القطاعات كافة، وأنه من الأفضل إخراجه للعلن من خلال النظام خصوصا أن التجارب الدولية أثبتت أن المنشآت الصغيرة والمتوسطة تتحول أحيانا إلى شركات كبيرة كما هو حال استثمار ابن المهاجر السوري ستيف جوبز الذي كان وراء نجاحات شركة أبل العملاقة.
من التعليقات التي لفتت نظري قول أحدهم كل الدول تفتح أبوابها للوافدين للعمل فيها والاستثمار في القطاع الخاص والمهن الحرة ضمن ضوابط يلتزم بها الوافد بما ينفع البلاد. وقول ثان التستر فيه دخل للمواطن بطريقة غير نظامية والمكسب يحول إلى خارج المملكة فلا الدولة استفادت ولا المواطن استفاد بطريقة نظامية. وقول ثالث مبادرة ممتازة تفتح المجال لأبناء البلد والمقيمين وأهم الضوابط نسبة سعودة عالية وضرائب. وقول رابع خطوة موفقة وذكية ستحرك الاقتصاد وتقلل من التحويلات للخارج وتجلب الاستثمارات.
أخيرا لماذا لا تكون شراكة علنية بين المواطن والمقيم بشروط وزارة التجارة، وهكذا تكون استثمارات قانونية وتنهي قضية التستر.
هل هذا رأي الأغلبية؟ بالطبع لا، وبالتالي علينا أن نطور النقاش والحوار حول قضية استثمارات الوافدين في إطار النظام للوصول لحلول عملية قابلة للتطبيق وتحقق المنفعة للجميع وتقلل من نسب الاقتصاد الخفي وتداول الأوراق النقدية خارج المصارف، كما تحفز المستثمرين الوافدين لتأسيس مزيد من المنشآت الاقتصادية في جميع المجالات بما يولد مزيدا من الفرص لأبناء البلاد، إضافة إلى زيادة فرص تسجيل كثير من المواطنين كمستثمرين شركاء للوافدين بشكل واضح وهو ما يعفي الدولة من التزاماتها تجاههم بالتوظيف في الحكومة أو دعمهم بغير وجه حق من خلال «حافز» أو الضمان الاجتماعي ما يتيح لها الفرصة لخدمة المحتاجين فعلا إلى الوظيفة أو الضمان الاجتماعي.
ختاما: ما أجمل القرارات التي توافق الواقع وتحل المشاكل بجميع أبعادها من جذورها، وما أجمل أن ندفع الناس للعمل والاستثمار تحت الشمس دون الحاجة إلى التخفي.