نعم .. لبيع حصة من أرامكو «2»
تناولت في الجزء الأول من هذا المقال تقييم "أرامكو" وكيف أنه من المستحيل "حسب المعطيات الحالية" أن تتجاوز قيمة "أرامكو" ثلاثة تريليونات ريال وبينت أن الدولة تفرض على الشركة التي تملك جميع حصصها رسوم امتياز 20 في المائة وتفرض ضريبة 85 في المائة وما يتبقى يذهب للشركة، لذلك فعليا لا يتبقى إلا القليل مقارنة بالإيرادات الكلية، وعليه لو افترضنا ، بحسبة غير دقيقة وبعزل كل التكاليف الأخرى، أن إيرادات النفط 900 مليار فإن رسوم الامتياز ستكون 180 مليارا، وبعد خصم كامل التكاليف الخاصة بالشركة يتم احتساب الضريبة على أساس 85 في المائة ، مجموع "رسوم الامتياز والضريبة" يذهب صافيا للدولة إلى وزارة المالية مباشرة تحت بند إيرادات نفطية، سواء باعت كامل "أرامكو" أم لم تبع منها شيئا، ثم يتبقى صافي الربح للشركة لتأخذ الدولة مرة أخرى، لكن عن طريق صندوق الاستثمارات العامة، ما نسبته 95 في المائة منها، بصفة أنها تملك أسهم الشركة، والباقي للمستثمرين. وتستطيع الدولة تحسين التقييم عن طريق تخفيض أو إلغاء الضريبة وهو ما سيرفع من أرباح ملاك الأسهم وأولها صندوق الاستثمارات العامة، وبالمقابل ينخفض إيراد وزارة المالية.
النقطة الثانية: ما بعد البيع. أعتقد أن أهم ما في موضوع "أرامكو" هو ما الذي سيحدث في المبالغ المتحصلة من البيع؟ وذلك حتى نستطيع أن نحكم على سلامة وحكمة قرار بيع حصة من "أرامكو" اقتصاديا وتعظيم منفعتها ونجاح استثمارنا أموالها، وتحقيق التنوع المنشود في الاقتصاد حسب الشروط التالية التي تشمل تعظيم واستدامة المنفعة لثلاثة جوانب مهمة، الاقتصادية، والبشرية والبيئية:
1 - أولا: يجب أن توجه هذه الأموال إلى الاستثمار في تأسيس شركات كبيرة كما فعلنا مع "سابك" وليس لتمويل النفقات التشغيلية، واستثمار هذه الأموال في صناعات أو قطاعات منتجة تحقق استدامة مالية وتدفقات نقدية من "الخارج" عبر التصدير وأرباحا بهوامش أعلى من وجودها في "أرامكو"، فمثلا يتم تقدير عوائد الحكومة في حصة الـ 5 في المائة، أو أي نسبة المراد بيعها، خلال الـ 20 عاما مقبلة مثلا ومقارنتها بالعوائد من الاستثمار الجديد إذا كانت أعلى "عوائد أرامكو"، فالحكومة لم تحقق ماليا فائدة مضافة والعكس صحيح.
2 - إيجاد وظائف جديدة وهي مسألة مهمة جدا، حيث إن أي توجه للحكومة نحو الاستثمار يجب أن يحقق هذا الشرط خصوصا مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها أغلب دول العالم اليوم وتقليل الاعتماد على العمالة الخارجية قدر الإمكان.
3 - يجب أن تتوافق هذه الاستثمارات مع بيئتنا وقدراتنا، مثلا لا تستهلك الموارد الطبيعية الناضبة ولا تكون صناعات مستهلكة للطاقة أو قطاعات مشكوكا في استمراريتها مستقبلا وغيرها الكثير.
من المهم ذكره هنا، أن أي استثمار جديد، بإعادة أموال اكتتاب "أرامكو"، داخل الاقتصاد سيحرك الاقتصاد بشكل "أكبر بكثير" مما يتخيله كل من عارض الاكتتاب إذا تم وفق الشروط السابقة. ولذلك يجب وضع خطة استراتيجية طويلة الأمد "من الآن" لما بعد "أرامكو" وكيف سيعاد استثمار أموالها؟ وما القطاعات التي سترتكز عليها استراتيجية استثمار هذه الأموال؟ وما مقدار الوظائف المتوقع استحداثها والعوائد المالية المتوقعة؟ إن إعلان خطة من هذا القبيل ونشر الاستراتيجية للعموم من شأنه أن يضع النقاط على الحروف ويسكت الجدل الدائر اليوم وسيشجع المستثمرين على استثمار أموالهم من جديد داخل الاقتصاد خصوصا مع القطاعات المساندة للقطاعات المراد الاستثمار فيها أو في القطاعات التحويلية إذا وجدت. وعلى أي حال أي ريال سيدفع من الحكومة في الاقتصاد "لابد" أن يوجد ريالات أخرى ووظائف مباشرة وغير مباشرة، كما حدث مع إنشاء "سابك" وأخواتها وهيئة الجبيل وينبع، وأي خروج لمتحصلات "أرامكو" عبر استثمارات خارجية سيقلص، وبشكل كبير، من فوائد بيعها أو يعاكس الفائدة المرجوة منها ومن حجم التدفقات النقدية الأجنبية إلى البلد. نحن اليوم نشهد تنافسا قويا من الاقتصادات الكبرى على جذب الاستثمارات ولو بالقوة عن طريق العقوبات والغرامات، مثل ما يفعله ترمب في أمريكا. ولذلك يجب أن ترتكز استراتيجيتنا على إعادة أموالنا إلى اقتصادنا وإغراء المستثمرين الأجانب والسعوديين بالاستثمار في البلد وتسهيل الإجراءات، والمهم إيجاد الوظائف وتطوير الكوادر البشرية لتتناسب مع الاقتصاد الجديد، ولا يكون هدف البيع تعظيم أرباح الصندوق وإغفال الاقتصاد المحلي الذي يعاني اليوم الترهل وعدم القدرة على التجديد والإبداع أو المواكبة مع التطورات الاقتصادية العالمية.
وختاما، لكل من شكك في أهمية وإمكانية نجاح بيع حصة من "أرامكو" - مع احترامي لكل وجهات النظر-، لم أجد أي حجة قوية تستند إلى وقائع صحيحة، بل كانت عاطفية ومبالغة في تقدير الضرر حسب اعتقادهم مع سوء فهم واضح لديهم سواء في معرفة رسوم الامتياز والضرائب وأرباح الشركة النهائية وملكية النفط. الحالة الوحيدة التي أتفق معهم فيها هي زيادة الحصة التي تتخلى عنها الدولة في ملكيتها. وأعتقد أنه إلى نسبة 20 في المائة مقبول والسبب أنها تعطي الدولة الصوت الأقوى في قرارات الشركة، من جهة وتقلل من تأثير انخفاض الإيرادات إذا حصل من الاستثمارات البديلة من جهة أخرى. ولا يمنع أن تضع الدولة شروطها من ناحية الملكية وحقوق الملاك الجدد أن تحد من صلاحياتهم وتدخلاتهم وبهذا تسد مخاوف البعض. أعتقد ـــ وبإذن الله ـــ إذا سارت الأمور بتحقق الشروط السابقة، سنجد أننا استطعنا تحقيق تنوع حقيقي في الاقتصاد "وهذا هو بيت القصيد من البيع" وبناء شركات عملاقة أخرى جديدة في قطاعات متنوعة، وإيجاد وظائف كبيرة بشكل مباشر وغير مباشر وزيادة على ذلك لا تزال ملكيتنا في "أرامكو" 95 في المائة وهي تعني ملكية شبه كاملة لن نفقد منها في أسوأ الظروف إلا 5 في المائة من إيراداتها فقط، مع العلم أن الدولة ستستمر في أخذ نسبة الامتياز الضريبية في الغالب بعد البيع وهو ما يحول أغلب إيرادات النفط إلي الدولة حتى لو بعنا «أرامكو» بالكامل، ولنا في بيع ملكية الدولة في شركات مثل "سابك" و"معادن" و"الاتصالات" وغيرها كثير أكبر مثال على فهم كيف آلت الأمور بعد بيع الدولة حصصها في هذه الشركات، وكيف تحسنت نتائجها ورفعت من كفاءتها، وطورت ووسعت نشاطاتها مع استمرار تملك الدولة نسبة كبيرة فيها.