العامل النفسي سيد الموقف
بعد وصول سعر برميل النفط إلى 90 دولارا وتأرجحه فوق هذا المعدل وتحته، أصبح الطريق مفتوحا للاستمرار في التصاعد، وبالتالي لم يعد احتمال وصول سعر البرميل إلى 100 دولار أمرا مستغربا. فالحاجز النفسي الذي كان يلعب دورا ما بصورة ما في وقف التصاعد المستمر، يبدو أنه تراجع، ففي أقل من عقد من الزمان من تدهور سعر البرميل إلى نحو 11 دولارا عاد وضع الأسعار إلى التحسن، وخلال هذه الفترة بدأ الارتفاع ليتجاوز سعر البرميل 50 دولارا في أواخر عام 2004، ثم 60 دولارا منتصف العام التالي، ثم 70 دولارا. ورغم التراجع الذي شهدته الأسعار في بداية الخريف الماضي، إلا أنها عادت واستعادت مكانتها لتبلغ أواخر فصل الصيف 80 دولارا، ثم لتتجاوز حتى هذا المعدل وتكسر حاجز 90 دولارا بالسعر الاسمي ولأول مرة في تاريخ صناعة النفط.
القناعة السائدة بين المنتجين تحديدا وإلى حد ما بعض أركان الصناعة النفطية، خاصة الشركات، أنه ليس هناك إشكال أساسي فيما يتعلق بتوفير الإمدادات، ناهيك عن وجود الاحتياطيات التي يمكن اللجوء إليها لضخ المزيد متى ما احتاجت السوق إلى ذلك. صحيح أن الشركات النفطية ليست لديها الفرصة للوصول إلى هذه الاحتياطيات كما كان الأمر سابقا، إذ أن المنتجين، وتحديدا في منطقة الشرق الأوسط يبدون أكثر اهتماما بالسيطرة على المفاصل الحيوية للصناعة النفطية في بلدانهم خاصة في ميدان العمليات الأمامية، الأمر الذي يحد من إمكانات توفير طاقة إنتاجية إضافية أو حتى ضخ المزيد من النفط، هذا في الوقت الذي تضمحل فيه فرص وجود احتياطيات أخرى ذات قيمة في الدول غير الأعضاء في منظمة أوبك، يمكن اللجوء إليها من قبل هذه الشركات.
عدم الوضوح يبدو سيد الموقف بسبب عوامل متعددة ليس لأحد السيطرة عليها، هذا إلى جانب أن التجربة التاريخية لا تعطي إشارات تفسر ما يجري على الساحة في الوقت الحالي. فالصدمة النفطية الأولى وأبرز ملامحها ارتفاع سعر برميل النفط جاءت بتلازم لظاهرتي التضخم والكساد، لكن حاليا، فإن الوضع الاقتصادي يبدو قادرا على امتصاص الزيادات في الأسعار بسبب تحسن قدرة الاقتصاد في التعامل مع مكونات الطاقة من نواحي الفاعلية في الاستخدام، وبروز قطاعات أقل استخداما للطاقة الأحفورية مثل قطاع الخدمات مثلا. ولهذا لم تشهد الساحة الدولية اضطرابات مثلما حدث قبل ثلاثة عقود من الزمان.
مع غياب تفسير بسيط يمكن اللجوء إليه لشرح ما يجري على الساحة النفطية، بدأت تتدفق النظريات ومن بينها نظرية ذروة النفط التي تقول إن العالم وصل قمة الإنتاج وفي طريقه إلى مرحلة التدهور التي تراجع عنها، هذا إن لم قد تجاوز هذه المرحلة بالفعل كما تقول مجموعة مراقبة الطاقة في تقريرها الأخير.
وبغض النظر عن مدى الصدق في هذه التفسيرات، إلا أن هناك حقيقة واضحة، فالصناعة النفطية تعتمد على التخطيط والأعداد البعيد الأمد، وخلال هذه العملية هناك حاجة لاعتماد سعر ما يتم التخطيط على أساسه. في السابق كان يمكن الاستناد إلى بعض التوقعات ذات الأساس المادي مثل النمو الاقتصادي في الدول الصناعية، وهي المستهلك الرئيسي إلى جانب الطقس وحجم ما يمكن أن يكون متاحا من إمدادات.
الوضع الحالي لم يعد بتلك البساطة، فالدول الصناعية الغربية لم تعد العامل الأساسي فيما يتعلق بالاستهلاك، وإنما برزت دول أخرى مثل الصين، الهند، البرازيل وغيرها، أصبحت تؤثر في تحركات سعر البرميل بسبب تأثيرها في مجالات الاستهلاك. كما أن مجالات النمو في الطلب لم تعد قاصرة على الدول الصناعية ولا حتى المتوسطة النمو، وإنما الدول النامية التي أصبحت سوقا كبيرا بسبب عمليات التخصيص، وتدفق الاستثمارات الخاصة والمباشرة التي صارت محركا رئيسيا كاد يضع المؤسسات العريقة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، على الهامش، إذ أصبحت تعيد النظر في هويتها ومجالات عملها بعد أن تراجع الطلب على خدماتها وبروز قوى جديدة قادرة على الحلول محلها.
وفي مثل هذه الأوضاع، ومع تراجع تأثير عوامل يمكن قياسها، تتقدم الظروف النفسية لتصبح محركة للسوق وبصورة تبدو عصية على التفسير المنطقي، فالارتفاع الأخير في سعر البرميل حتى 90 دولارا تم تبريره من قبل الكثير من المحللين على أساس أنه يعود إلى التوتر الذي تشهده الحدود التركية العراقية، لكن أقل تمعن في الوضع على الطبيعة يكتشف وبسرعة أن إجمالي الصادرات النفطية العراقية عبر المنافذ الشمالية لا يتجاوز 200 ألف برميل يوميا من إجمالي صادرات في حدود 1.7 مليون. وعليه، فعمليا يفترض ألا يكون هناك تأثير لما يجري على الحدود التركية العراقية، لكنه العامل النفسي وغياب العوامل التي يمكن قياسها التي أصبحت سيدة الموقف.