عقلية الإنسان .. بين بناء الجدران وإقامة الجسور
طرح الرئيس الأمريكي الجديد، خلال حملته الانتخابية، أفكارا مثيرة للجدل، ليس في بلاده فقط، بل على المستوى الدولي أيضا. ويكتسب طرح مثل هذه الأفكار، على هذا المستوى، أهمية خاصة من حقيقة أن أمريكا أيا كان رئيسها، ونتيجة لما تملكه من إمكانات، هي الدولة الأكثر قدرة على التأثير في العالم. ولعل بين أبرز الأفكار التي طرحت فكرة "الجدار المادي" على الحدود الطويلة مع المكسيك للفصل بين البلدين؛ وفكرة التمييز بين الناس وأصولهم الثقافية والعرقية، وهو ما يمكن النظر إليه على أنه "الجدار الثقافي" الفاصل بين إنسان وآخر، حتى لو كان هذا الآخر أمريكيا أيضا. وقد اعتبر كثيرون أن هذه الأفكار خطيرة لا بد من مواجهتها منعا للتوتر بين الناس، وتجنبا لتداعيات ساخنة لا تحمد عقباها، سواء داخل الوطن الأمريكي أو خارجه.
قام المعترضون على فكرة "الجدار"، داخل أمريكا وخارجها، بتقديم فكرة "الجسر" في مواجهة "الجدار". فإذا كان الجدار وسيلة للفصل بين الناس، فإن الجسر وسيلة للربط بينهم. ودعا بعض المعترضين إلى إعادة التفكير في مسألة الفصل بين الناس؛ ورفعوا من أجل ذلك شعارا يقول "فلنجعل أمريكا تفكر مرة أخرى"؛ وهو شعار يشابه في الصياغة ويختلف في المعنى عن شعار حملة الرئيس الانتخابية وهو "فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". ولا شك أن إعادة التفكير في أي أمر هي محاولة لإصلاح ما يمكن أن يتضمنه من أخطاء.
ولسنا في هذا المقال بصدد مناقشة تغيرات السياسة الأمريكية، وتوجهات العهد الجديد، سواء التزمت بشعارات الحملة الانتخابية أم لم تلتزم، أو حتى طرحت توجهات أخرى مختلفة، فلهذا الأمر أصحابه من المتابعين والمهتمين. نحن في هذا المقال نود أن نطرح مسألة فكرية تركز على"عقلية الإنسان بين بناء الجدران وإقامة الجسور"، وأثر ذلك في حياته ومستقبله.
ولعلنا في مناقشة هذه المسألة نعود إلى ثلاثية "الحقائق والأفكار والتوجهات" التي طرحناها في مقال سابق. فالتعرف على الحقائق القائمة، سواء الثابتة منها أو المتغيرة، وكذلك التعرف على الأفكار المطروحة ومنطلقاتها، سواء الموضوعية منها أو غير الموضوعية، معطيات مهمة للتفكير ورسم التوجهات نحو تحقيق الأهداف. فمن خلال الحقائق القائمة والأفكار المطروحة نستطيع التفكير وتحديد التوجهات، ووضع خريطة طريق لما نريد تحقيقه من أهداف نتطلع إليها.
الأهداف الموضوعية للإنسان، ربما في كل زمان ومكان، تتشابه عموما مع ما يطرح اليوم، في مجال "المدن الذكية"، وهي "رفاهية الحياة واستدامتها". فإذا كان الأمر كذلك، فماذا نحتاج إليه في توجهاتنا على أساس الحقائق والأفكار المتاحة: هل نحتاج إلى بناء جدران تفصل بيننا، وتركز على الاستقطاب العرقي أو الثقافي أو الفكري أو مدى امتلاك أسباب القوة وغير ذلك مما يؤدي إلى ظلم الأطراف الأخرى؛ أم نتطلع إلى إقامة جسور للتواصل تهتم بصفات العقلانية والموضوعية وفطرة الأخلاقيات الإنسانية المشتركة بين الناس، لتعطي سلاما ووئاما يتمتع به الجميع؟
الجدران في العالم كثيرة، وهي منبع للتوتر ومصدر للمآسي. الظلم هو حصيلة أي جدار بين البشر، والجدران كثيرة في حياة الإنسان؛ وهي قائمة على مستويات متعددة وعوامل اختلاف كثيرة. قد نجد جدرانا تؤدي إلى الظلم على مستوى العلاقات والحياة الاجتماعية، وعلى مستوى العمل والحياة المهنية، وربما على مستوى الوطن الواحد، بل على مستوى العالم بأسره.
ليست الجدران خيارا نريده، بل إن الجسور بين البشر هي ما نحتاج إليه من أجل "رفاهية الحياة واستدامتها". وقد علمنا ديننا الإسلامي الحنيف ذلك في الآية الكريمة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". خطاب الآية الكريمة للناس جميعا، والتوجه نحو التعارف هو جسر التواصل المنشود فيما بينهم؛ مع الحرص على الابتعاد عن أي ظلم لأن "الظلم ظلمات يوم القيامة".
وليس بناء الجسور للتواصل ومد مسارات مشتركة بين البشر المختلفين مسألة مستحيلة، وخصوصا أن بينهم، على الرغم من اختلافهم، صفات بشرية تجمعهم، كما أسلفنا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن لنا في حياتنا أمثلة من مجالات عدة، إنسانية وتقنية، لجسور تعطي مسارات تواصل ناجحة بين عناصر تتصف بالاختلاف.
في مجال "الاختلاف اللغوي" بين البشر على سبيل المثال، نجد "المترجم" جسرا وسيطا بين المتحاورين بلغات مختلفة، له مع كل طرف مسار ينقل إليه ما يتلقاه من المسار الآخر. ويلقى هذا الجسر الحماية اللازمة والتقدير المطلوب من الطرفين للإبقاء على التواصل بينهما.
وفي مجال "الاختلاف التقني" بين وسائل الاتصال التي نستخدمها، هناك جسر مهم للوصول إلى الإنترنت عبر وسائط مختلفة، سواء من المنزل أو من المكتب أو الطريق، أو حتى من السيارة أو الطائرة، ومن خلال الحاسوب أو عبر الجوال. فالإنترنت هي شبكة الشبكات: كل وسائل الاتصال وشبكاتها المختلفة تتصل بالإنترنت، ومنها إلى الخدمات التي تقدمها من مواقع كثيرة على المستوى الدولي. والجسر الذي يؤمن هذا الاتصال مع الإنترنت هو المسار التقني المعروف بـ "بروتوكول التحكم في النقل ـــ بروتوكول الإنترنت TCP-IP". ويلقى هذا الجسر اهتماما كبيرا في تطوير الإنترنت، لتكون العناصر المتصلة بها والمعرفة عندها ليس فقط بشرا بل أشياء يمكن التعرف على حالتها والتواصل معها فيما يعرف بـ"إنترنت الأشياء".
إذا كان للاختلاف اللغوي جسر للتواصل، وكان للاختلاف التقني جسر آخر، وكانت الجسور الحقيقية أيضا قائمة بين الجبال وعبر الوديان، فلماذا لا تكون هناك جسور تتجاوز الاختلاف العرقي والثقافي والفكري ومدى امتلاك أسباب القوة وغير ذلك بين البشر، وتهتم بالعقلانية، والموضوعية، وفطرة الأخلاقيات الإنسانية، ومنع الظلم وباقي الصفات المشتركة فيما بينهم. هذه الجسور تحتاج إلى وعي معرفي، إلى تعبئة إنسانية بهذا الوعي، إلى النية الحسنة، خصوصا من الأطراف الأقوى، على المستويات كافة.
ولعلنا نصل، عبر جسر المعرفة والتواصل الإنساني في شتى المجالات، ومن خلال الصفات البشرية الجامعة، إلى "بروتوكول إنساني معرفي" يماثل في دوره "بروتوكول الإنترنت"، ويصل بالإنسانية إلى التكامل بعيدا عن الظلم والتشتت، وإلى السعادة بعيدا عن التوتر، وابتعادا عن المآسي وتداعياتها المؤلمة.