السياحة الداخلية الاقتصاد المعطل

حظيت الأسبوع الماضي برحلة رائعة في الجزء الشمالي الغربي من بلادنا الحبيبة زرت فيها مدائن صالح ومغاير شعيب والمناطق الجبلية ذات النحت الغريب حولها وزيارة قلعة المعظم الأثرية ووصولا إلى مناطق الزيتة، وفي جدة التضاريس العجيبة والغريبة ذاتها، ومن ثم إلى الساحل الشمالي الغربي بشواطئه البكر الرملية التي أطلقت عليها "مالديف السعودية" لجمال طبيعة هذه الشواطئ. هذه الرحلة استفزت لدي مشاعر من البهجة والأسى في الوقت نفسه بسبب تجاهل وإهمال هذه المناطق لفترة من الزمن وعدم تطويرها واستثمارها وتقديمها كمنتج مناسب للعائلة السعودية قبل السائح الأجنبي، حيث كنا كسعوديين نتمنى وجود مرافق وأماكن سياحية قريبة ومناسبة ومع الأسف لم نعلم عن وجود هذه الإمكانات الطبيعية لدينا وأنها لم تستغل. لقد حملت "رؤية المملكة 2030" اهتماما كبيرا بالسياحة وتطويرها، حيث تستهدف المملكة عبر "برنامج التحول الوطني" زيادة الاستثمارات في هذا القطاع لتصل إلى 171 مليار ريال بحلول 2020، وبالتالي توفير وظائف مباشرة تقدر بـ 1.2 مليون وظيفة متوقع أن يكون نصيب السعوديين منها 29.6 في المائة أو ما يعادل 360 ألف وظيفة، وكذلك تتوقع هيئة السياحة أن تصل القيمة المضافة لهذا القطاع إلى 118 مليارا وأن يصل حجم الإنفاق إلى 174 مليارا ويرتفع عدد السياح إلى 82 مليونا وأن تكون مساهمة القطاع في الناتج المحلى في عام 2020، 3.1 في المائة ارتفاعا من 2.9 في المائة حاليا.
شخصيا أعتقد أن هذه الأرقام، وهذا المستهدف، متواضعين عطفا على ما شاهدته بنفسي من إمكانات طبيعية لا توجد في كثير من البلاد القريبة منا ابتداء من سواحل البحر الأحمر التي تمتد على مسافة 2400 كيلومتر وتملك تنوعا كبيرا من التضاريس الطبيعية كالخلجان والشروم والرؤوس والبحيرات الساحلية، وتنوعا غنيا بيئيا وأحيائيا من أكثر من 200 نوع من الشعب المرجانية التي تعتبر الأجمل على مستوى العالم والأفضل لممارسي رياضة الغوص ولديها تنوع في الطيور والأحياء المائية وأشجار المانجروف الموجودة بكثرة في جزر فرسان في أقصى الجنوب، تملك السعودية 1300 جزيرة يوجد أغلبها في البحر الأحمر بما يقارب 1150 جزيرة (تملك محافظة أملج 101 جزيرة وحدها)، الأغلبية العظمى لم تستغل وتتنوع بين جزر مرجانية وبركانية ورملية بتشكيلة جميلة لا يملكها كثير من الدول المجاورة أو البعيدة، هذه الجزر بالإمكان استغلالها من عدة نواح وتطبيق أفكار لجذب السياحة بكل سهولة، خصوصا أن السواحل الشمالية من البحر الأحمر تتميز باعتدال جوها ومناسبته خصوصا في الصيف، حيث لا توجد حرارة أو رطوبة مثل الخليج العربي أو مثل جدة أو السواحل الجنوبية منها، وهو ما يعزز إمكانية نجاح جذبها للسياح في فترات الصيف إضافة إلى كل الإمكانات التي تم ذكرها، إن وجود منتجعات كبيرة ومناسبة للعائلات وذات بنية تحتية عالية بلا شك ستستقطب كثيرا من العائلات التي تقضي إجازاتها في الخارج بحثا عن أماكن ومرافق سياحية جميلة وملائمة للعائلة وبأسعار مناسبة.
حسب بيانات من البنك الدولي، أنفق السياح السعوديون في الخارج ما يقارب 80 مليار ريال في عام 2014، ويبدو أن هذا الرقم ارتفع في عام 2015 ليصل إلى 86 مليار ريال ما يجعل السعودية من أكبر 20 بلدا في العالم ينفق على السياحة، أما على صعيد السياحة الداخلية فأنفق السعوديون على السياحة الداخلية ما يقارب 48 مليار ريال في عام 2015 وهذا الرقم يشمل الزيارات العائلية والترفيه وهو بكل تأكيد رقم متواضع مقارنة بحجم الإنفاق على السياحة الخارجية، لكن بلغ الإنفاق من قبل السياح من الخارج في السياحة الداخلية ما يقارب 83 مليارا في عام 2015 بزيادة 52 في المائة على 2014 وهذا الرقم يشمل الحج والعمرة والأعمال وغيرها، لذلك يتضح أن هناك نموا في قطاع السياحة رغم عدم نمو الإمكانات بالمقدار نفسه، وهناك اهتمام متزايد بما يسمى السياحة الإسلامية أو الحلال أو السياحة المناسبة للمسلمين وهي تعريف لما تطلب العائلة المسلمة توافره في سياحتها مثل أماكن مخصصة للنساء وأماكن للصلاة وعدم وجود المشروبات الكحولية وتحديد القبلة وغيرها. حسب تقرير لتومسن رويترز، بلغ حجم السياحة من هذا النوع 142 مليار دولار في 2014 "من دون احتساب الحج والعمرة"، وما يعادل 11 في المائة من حجم السياحة العالمية، وهو حجم كبير ومتوقع له النمو ليصل إلى 233 مليارا في عام 2020، وهو ما يعني وجود طلب قوي وعال لها. واحتلت ماليزيا المرتبة الأولى في هذا القطاع ثم تركيا ثم الإمارات ثالثا، واحتلت سنغافورة المرتبة الأولى كأفضل بلد غير مسلم يوفر سياحة مناسبة وصديقة للسائح المسلم.
هذا بالتالي يثير التساؤل عن حجم الإيرادات لو أننا استثمرنا وطورنا مواردنا ومواقعنا السياحية سواء الطبيعية أو الدينية من خدمات وتسهيلات، ما نسبة استحواذنا من هذا القطاع؟ كل مقومات النجاح لصناعة سياحة نملكها اليوم، لدينا السواحل البكر، الجبال ذات التشكيلات الغريبة والعجيبة، الطبيعة والمناخ الرائع في الجنوب، الصحاري، المواقع الأثرية الكثيرة في كل شبر من المملكة التي لا يعلم عنها أغلب السعوديين، ولكل ما سبق نستطيع إيجاد أنشطة وفعاليات سياحية تناسب المكان والطبيعة فيه، وأخيرا المواقع المقدسة التي هي جذب رئيس للمسلمين وإدراكا منها بأهمية استغلال وجود المعتمرين ستطرح هيئة السياحة برنامج العمرة الممتدة الذي سيسمح للمعتمر بزيارة المناطق الأثرية والسياحية في مختلف مناطق المملكة ما يرفع من حجم إنفاق المعتمر ويعطيه الفرصة لاستكشاف المملكة أكثر.
ختاما، قد يكون لدى البعض شك في إمكانية نجاح السياحة في السعودية من واقع تجارب مريرة وسيئة، لكن أذكّر الجميع بتجربة دبي الفريدة التي أتذكر عندما أطلق الشيخ محمد بن راشد رؤيته بتحويل دبي إلى وجهة سياحية عالمية حينها شكك أغلب الناس في نجاح هذه الرؤية وأنها ستظل حلما لن يغادر مخيلة مطلقها، لكن مع الأيام أثبتت دبي مع الإرادة والعزيمة والتخطيط السليم تفوقها حتى على ما تم التخطيط له، رغم عدم توافر الإمكانات الطبيعية أو المالية لإنجاح مشروعها، فكيف أخي القارئ ببلد مثل السعودية يملك موارد طبيعية وتضاريس متنوعة وأهم أماكن مقدسة في العالم وأماكن أثرية ما زلنا نكتشفها إلى اليوم ونملك فوق كل ذلك الطاقة البشرية والموارد المالية الكافية لإنجاح مشروعنا السياحي الذي سيزيد من الناتج المحلي عبر تشغيل الفنادق والنقل الجوي والبري والبحري ومحطات الطرق والمطاعم والأسواق وسيارات الأجرة، والأهم سينمي المناطق خارج المدن ويقلل الهجرة منها حال تطوير الأماكن السياحية فيها، ولتحقيق هذا الحلم، نحتاج أولا إلى إرادة ومتابعة من أعلى المستويات من الدولة لتجاوز البيروقراطية القاتلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي