حلب .. مذبحة القرن

حلب .. مذبحة القرن
لم يبقَ من هذا النظام سوى صورة لا حاجة إليها إلا للحفاظ على مصالح دول أخرى.
حلب .. مذبحة القرن
من المنطقي وصف الأسد بالديكتاتور المقيت.

كان العالم بأسره على موعد مع واحدة من الجرائم ضد الإنسانية، ممن اكتملت أركانها في مدينة حلب السورية، جريمة أكدت أن رقي الإنسانية في مدارج المدنية، يرافقه موت بطيء للضمير الإنساني، إلا من قلة من بيننا؛ لا تزال تحافظ على طراوة حسها الإنساني الأصيل، وقد بلغ الأمر بالبعض درجة الانحطاط؛ أو لنقل إن مساً من جنون الطائفية والمذهبية أصابهم، حين احتفلوا فرحا بالنصر على وقع صور ومشاهد ضحايا حلب.

بعيدا عن تفاصيل هذه المآسي الإنسانية التي يدمى لها قلب فيه ذرة من الإنسانية، نتوقف عن بعض الحقائق التي تعلن عن نفسها بعد هذه المعركة المصيرية؛ التي ترتبط بكافة الأطراف المتدخلة في الملف السوري. طبعا لا داعي للتذكير بأن هذه الحقائق جاءت على حساب المواطنين الحلبيين بالدرجة الأولى والسوريين بوجه عام، ممن كانوا قرابين لها؛ إما إبادة وقتلا أو تهجيرا وتشريدا.

لكن لا بد من التأكيد على حقيقة جوهرية مفادها أن مجزرة حلب فضحت نفاق العالم المعاصر، إذ أتت على تلك البقية الباقية من المفاهيم المتداولة في الحقل السياسي الدولي "حقوق الإنسان، جرائم حرب، حماية المدنيين، مبادئ القانون الدولي الإنساني..." التي تستخدم في غالب الأحيان؛ شعارات محكومة بخلفية سياسية ضد هذا البلد أو ذاك، في المحافل الدولية دون أن نرى أو نسمع لها ركزا على أرض الواقع.

عودا إلى الحقائق الست لمعركة حلب المفصلية في مسار الثورة السورية المجيدة لنشير إلى ما يلي:

أولا: تضخم الحس الأيديولوجي لدى بعض الفصائل، وحضور الحسابات لدى البعض الآخر، ما انعكس بشكل سلبي على تشكيل معارضة موحدة، لها واجهة سياسية واحدة "ثوار الفنادق"، وجبهة عسكرية "ثوار الخنادق". فثوار سورية لم يقدموا للعالم كتلة واحدة تعبر عن صوتهم، تضم قيادة سياسية متماسكة للتفاوض، وقيادة عسكرية للقتال الميداني. فرقة استغلها المتربصون بالثورة السورية، بعدما أضافوا إليها طول النفس من أجل الوأد التدريجي لهذه الثورة، على الرغم من الجهود والدعم والاحتضان الذي لقيته بعض هذه الفصائل من دول عربية وإقليمية عدة وعتادا.

ثانيا: أسقطت معركة حلب ورقة التوت عن "الذاكرة الانتقامية" العميقة التي تحرك النظام الإيراني وامتداداته الطائفية في المنطقة العربية، فقد بلغ الوكلاء المحليون لطهران في الإقليم العربي ما يفوق 30 مليشية شيعية؛ من أبرزها: حزب الله، أنصار الحوثي، جيش الإمام المهدي، لواء الإمام علي، لواء الإمام الحسين، لواء اليوم الموعود، فيلق الحرس الثوري، سرايا الدفاع الشعبي، لواء الفاطميين، حركة الصابرين، سرايا طليعة الخرساني، سرايا عاشوراء، سرايا السماء، كتائب سيد الشهداء، فيلق بدر، لواء ذو الفقار، لواء الصادقين،... إلخ، ممن تعتمد عليهم إيران في التوسع تنفيذا لمشروعها القومي الطائفي، سيرا على نهج الدولة الفاطمية والدولة الصفوية، ما يكشف أن هذا المنطق متأصل له جذور في الثقافة الشيعية، بموجبه تتمدد الدولة لإعادة أمجاد الدولة الفارسية على حساب التهام بقية الدول؛ خصوصا ذات المرجعية المذهبية المخالفة.

ثالثا: معركة حلب فرصة للتحالف الروسي الإيراني الأسدي المدعوم صينيا من أجل ترتيب الأوراق بعد استعادة المدينة المفتاحية التي تمثل تطورا مفصليا، يمكن أن تكون له تبعات على المنطقة برمتها. كما يمكن أن تكون نتائجه عكسية إذا فطنت الدول الكبرى إلى اللحظة التي حانت لضرورة مراجعة مواقفها "أمريكيا والاتحاد الأوروبي"، والعودة إلى الشأن السوري الذي بقي يحظى بالدعم والمساندة وباستماتة من دول عربية وإقليمية معدودة على أصابع اليد الواحدة.
#2#
رابعا: فضحت الأزمة السورية القوى الدولية التي تحب اللعب وراء الكواليس، وعلى رأسها الصين التي تحولت من دولة صامتة تقليديا، تنأى بنفسها عن صراع الكبار في الساحة الدولية إلى شريك استراتيجي لروسيا تجاهر بمواقفها السياسية في مجلس الأمن. فقد استخدمت الصين "الفيتو" أربع مرات في المجلس، بغية الحيلولة دون استصدار قرار يطرح خيار إزالة بشار الأسد من الحكم؛ بدعوى أنه رئيس سورية المنتخب. وبذلك تمثل الساحة السورية ملتقى توافق المصالح؛ بين الدب الروسي والتنين الصيني، وهو أيضا درع لمواجهة الحلف الغربي والعودة تدريجيا إلى اقتسام النفوذ معه بعد قرن من القسمة الأولى.

خامسا: أثبتت مذبحة القرن لمن لديه أدنى شك من الشلل التام الذي تعيشه منظمة الأمم المتحدة، كلما تعلق الأمر بقضايا ومشكلات العرب والمسلمين، إن الأمر ليس مبالغة كلامية بقدر ما هو حقيقة واقعية، فالأمم المتحدة صاحبة المسؤولية الأولى عن هذه المأساة، حين تنازلت عن مهمتها الإنسانية، فإليها توكل مهمة تأمين حماية المدنيين في مثل هذه الظروف، التي تجاوز في قسوتها شتى أشكال الحروب التي عرفتها البشرية، فما عرفته حلب هو عبارة عن حرب إبادة مع سابق إصرار وإمعان.

سادسا: تخاذل محور واشنطن باريس عن التدخل لوضع حد للمأساة السورية أمام تقدم محور موسكو طهران بكين، يكشف عن عمق الأزمة التي تجتاح العواصم الغربية بعد عودة أحزاب اليمين واليمين المتطرف لاكتساح البرلمانات في عديد من الدول، معلنا بذلك عودة سياسة التقوقع على الذات والانكفاء. فجزء كبير من العالم وجد نفسه مذهولا أمام عجز دول تتغنى بقيم ومبادئ حقوق الإنسان؛ عندما لم تستطع كبح فوضى واضطراب الجغرافيا السياسية في الشام، لدرجة جعلت "محور الشر" قيصر الروس وملالي الفرس، يستعرضون عنترياتهم في سورية دون أن تحرك هذه الدول ساكنا.

وتبقى الحقيقة التاريخية الساطعة للعالم أن مدينة حلب التي دمرت ثلاث مرات بالكامل "المغول مع هولاكو، التتار مع تيمورلنك، زلزال عام 1138" ثم نهضت، تتعرض للإبادة الرابعة في تاريخها بتحالف رباعي هذه المرة "النظام، الروس، الفرس، والصين"، وصمت المنتظم الدولي، وبذلك تنضم إلى ثلاث مدن وصلت إلى التاريخ بعد تدميرها، يتعلق الأمر بجروزني الروسية ودريسدن الألمانية وجرنيكا الإسبانية.

الأكثر قراءة