«عائلتي أولا»
عنوان هذا المقال مقتبس من عنوان كتاب لعالم النفس الشهير فيليب كالفن ماكجرو المعروف بـ "الدكتور فيل" وهو مقدم تلفزيوني وكاتب وعالم نفس. وكتاب "عائلتي أولا" لـ "فيل"، ليس بالكتاب المتميز، وليس بالكتاب السيئ من وجهة نظري، ولهذا قمت باستعارة العنوان فقط فأجمل ما في الكتاب عنوانه.
الذي دعاني إلى العودة إلى الكتابة عن الأسرة صعوبة أداء هذه المهمة؛ بسبب تعقد متطلبات الحياة نتيجة حاجة الأب إلى العمل والضرب في الأرض، وما يتطلب ذلك من غيابه عن أسرته وما يتبع ذلك من السفر المتكرر والطويل أحيانا. كما أنني لاحظت تخلي بعض الآباء عن مهمة التربية نتيجة قناعات تربوية، لا ندري من أين أتوا بها، يمارسونها على أبنائهم وبناتهم، إما بالشدة المفرطة، وإما بمنح الحرية المطلقة، وسلوك كهذا لا يمكن أن يطلق عليه تربية أبدا.
ولكن كيف نؤدي مهمة التربية كما يجب ونهتم بمن هم تحت مظلتنا من الأبناء والبنات، وفي الوقت نفسه نؤدي ما تطلبه منا الحياة العصرية من علاقات وعمل وبيع وشراء وتجوال وترفيه وغيرها؟ حتى نجيب عن هذه الأسئلة نريد أن نعرض نظرية الشبكة الإدارية لصاحبيها "بليك وموتون" وهي إن كانت إحدى نظريات القيادة إلا أنها ستفيدنا كثيرا في مجال إدارة الأسرة.
قام كل من "بليك" و"موتون" بتصنيف السلوك القيادي إلى خمسة أنماط أساسية وفقا لاهتمام القادة بالإنتاج "العمل" والاهتمام بالموظفين. فالقائد لابد أن يهتم بالإنتاج، وفي الوقت نفسه يجب أن يهتم كذلك بالموظفين.. ولكن كيف يتم هذا؟ وجد "بليك" و"موتون" خمسة أنماط قيادية تنتج عن هذا. النمط الأول يطلق عليه القيادة السلبية وهي التي تولي اهتماما ضئيلا بكل من الأفراد والعمل "الإنتاج" على حد سواء، وبالتالي فالنتيجة المتوقعة لمثل هؤلاء القادة هي عدم تحقيقهم أي أهداف إنتاجية وعدم تحقيق أي درجة معقولة من الرضا الوظيفي. النمط الثاني يطلق عليه نمط السلطوية وفيه يتم بذل مزيد من الاهتمام بالإنتاج ولو على حساب العاملين، حيث يقل الاهتمام بهم إلى درجة كبيرة. النمط الثالث يطلق عليه القيادة الإنسانية، وهذا يتم باهتمام كبير بالموظفين على حساب الإنتاجية. النمط الرابع المناصفة أي مناصفة الاهتمام بين العاملين وبين العمل؛ فيتم فيه تقسيم الجهد بالتساوي بين الإنتاجية وبين الاهتمام بالموظفين ومشاعرهم وحوافزهم. النمط الخامس يطلق عليه الإدارة الجماعية "إدارة الفريق" والقياديون الذين ينتمون إلى هذا النمط الإداري يولون عناية فائقة واهتماما كبيرا بكل من بعدي العمل "الإنتاج" والعاملين، ويؤمنون بأن العمل الجماعي كفريق سيحقق الأهداف الإنتاجية للمنظمة والأهداف الذاتية للموظفين.
لو طبقنا نظرية الشبكة الإدارية على الأسرة كيف ستكون النتيجة؟ نريد أن ننظر إلى الآباء هنا على أنهم قادة ونصنفهم بناء على اهتمامهم بأسرهم واهتمامهم بوظائفهم كما فعل "بليك" و"موتون". تطبيق نظرية الشبكة الإدارية في مجال إدارة الأسرة يظهر لنا عدة نماذج. النموذج الأول يطلق عليه «اللامبالي» وهو الأب الذي يهمل عائلته ووظيفته معا فهو لا يقدم شيئا يذكر لا لمنظمته ولا لعائلته، رغم أنه يحسب كأب وقائد للأسرة وفي الوقت نفسه موظف في منشأة، ولكنه فاشل في أداء المهمتين، وأب هذه سجاياه موته أفضل من حياته وباطن الأرض خير له من ظاهرها.
النموذج الثاني يطلق عليه "شهيد العمل"، حيث يتمثل سلوكه في الاهتمام التام والكامل بالعمل "الوظيفة" على حساب الأسرة. فرب الأسرة وفقا لهذا النموذج يعطي كل وقته وجهده وفكره لأداء وظيفته دون أن يعطي أسرته أي جهد يذكر. وهذا الصنف قد ينجح نجاحا مدويا في عمله وقد ينال مكاسب مالية ومعنوية ومحبة رؤسائه، إلا أن الذي يدفع الثمن عائلته التي لم تنل شيئا من الاهتمام. ولن يلاحظ ذلك إلا مع تقدم السنين، عندما يشب أبناؤه وبناته عن الطوق ويراهم يعانون نقص المهارات وقلة الخبرات، ويكون هناك انحراف في السلوك وعدم استقرار في الشخصية؛ نتيجة ما يعانونه من فراغ عاطفي وقلة توجيه، سبب كل هذا غياب المربي عنهم وتركيزه على عمله.
النموذج الثالث يطلق عليه النموذج "الحنون" وهو الأب الذي يعطي الاهتمام الكبير للأسرة على حساب العمل والوظيفة، والذي ينتمي إلى هذا النموذج قد يواجه ضغوطا مالية نتيجة عدم استغلال الفرص وشح مصادر الأموال التي يضحي بها الأب إذا تعارضت مع مصلحة أسرته. وتصرف كهذا قد يسبب لنفسه ولأسرته عجزا ماليا وقلة في الدخل ومحدودية في الموارد. فالاهتمام بالأسرة لا يعني البتة رفض الحياة وترك العمل والضرب في الأرض. النموذج الرابع المناصفة بين الوظيفة والأسرة أي تقسيم الجهد والاهتمام بالتساوي بين الوظيفة والأسر؛ فنصف الاهتمام والوقت والجهد للوظيفة والنصف الآخر للأسرة، وهذا إن كان نموذجا جيدا إلا أنه ليس النموذج المثالي لأنه لا يخرج لنا إبداعا لا في العمل ولا في تكوين أسرة مبدعة.
النموذج المثالي هو النموذج الخامس الذي يطلق عليه "الآباء المبدعون"، فالأب هنا يعطي اهتماما كبيرا للوظيفة واهتماما شديدا أيضا للأسرة. فهو لا يقدم جهده واهتمامه مناصفة كما في النموذج الرابع بل يعطي كامل الجهد للوظيفة وكامل الجهد والاهتمام للأسرة وبالقدر نفسه والكفاءة عن طريق تبني العمل الجماعي وتوزيع الأدوار وتفويض المسؤوليات غير الجوهرية كأب وكموظف إلى من يثق بهم. وبطريقته هذه يقوم بالتركيز على أهدافه الشخصية في عمله وتحقيق ذاته، وفي الوقت نفسه يقوم بتحقيق أهداف كل فرد من أفراد الأسرة. وهذا هو النموذج المثالي، ولكن إن تعارضت مصالح الوظيفة مع مصالح العائلة فتظل العائلة هي المقدمة وهي الأولى بالاهتمام، ولكن لا يعني ذلك عدم الاهتمام بمصدر الرزق وجلب الأموال وتنمية الذات.