الجامعات .. وثلاثية الاكتشاف والإبداع والابتكار

هناك مشهد مهم نراه جميعا في حياتنا يتمثل في التفاعل بين "عقل الإنسان"، الذي ميزه الله به عن سائر مخلوقاته، و"الطبيعة من حوله"، التي منحها الله أسرارا لا حدود لها. فمن هذا التفاعل نجد أنفسنا أمام "اكتشافات" مدهشة لا تنتهي. اكتشف عقل "نيوتن" الجاذبية الأرضية وهو يرى التفاحة تسقط على رأسه من الأعلى إلى الأسفل. واكتشف آخرون اكتشافات شهيرة مهمة أخرى مثل الذرة والعناصر المكونة لها؛ ومثل كروية الأرض؛ يضاف إلى ذلك اكتشافات أخرى كثيرة تتجدد باستمرار، يلاحظها الإنسان ويفكر فيها، ثم يقوم بتوثيقها. وقد يستطيع بعد ذلك استغلالها في "ابتكار" منتجات أو خدمات جديدة تستند إليها، وتحمل "قيمة مادية" في سوق راغبيها والمستفيدين منها.
وللمشهد المهم هذا جانب آخر أيضا يتمثل في قدرة "عقل الإنسان"، ليس فقط على اكتشاف أسرار الطبيعة، بل على "إبداع" أفكار ومفاهيم جديدة غير مسبوقة، عبر معالجة ذهنية منطقية لما يراه من حوله من قضايا ومشكلات، كما فعل عقل "فيثاغورث" عندما وضع قوانين الهندسة التحليلية، وكما فعل غيره في وضع مناهج وأساليب ذهنية لقضايا أخرى مختلفة. وكما هو الحال في الاكتشاف، ربما يستطيع الإنسان أيضا استغلال الأفكار التي يبدعها في "ابتكار" منتجات أو خدمات جديدة تحمل قيمة مادية لقطاع من المستفيدين.
في "الاكتشاف" إذن يقدم عقل الإنسان "حقائق" تتمثل في معرفة جديدة تكشف بالملاحظة والتجربة سرا من أسرار الطبيعة؛ وفي "الإبداع" يعطي عقل الإنسان "أفكارا" تتمثل في معرفة جديدة ناتجة عن معالجة ذهنية لأمور مختلفة في الحياة. وهكذا فإن كلا من الاثنين مصدر من مصادر المعرفة الجديدة. والمعرفة بالطبع "قوة" ذات فوائد مادية، إذا حسن استغلالها؛ وهنا يبرز "الابتكار" الذي يعمل على "تحويل المعرفة إلى قيمة" من خلال تقديم منتجات أو خدمات جديدة ومفيدة يسعى إليها الآخرون.
وهكذا تكتمل ثلاثية "الاكتشاف والإبداع والابتكار"، وهي الثلاثية المحركة للمعرفة والمفعِّلة لدورها في الحياة. لكل من الاكتشاف والإبداع "قيمة حضارية" تتمثل في توسيع دائرة معارف الإنسان؛ وللابتكار "قيمة مادية"، مستخرجة من القيمة الحضارية؛ وللثلاثة معا دور في تحقيق التنمية وتعزيز استدامتها. ولا شك أن لطبيعة الموضوعات المطروحة أثرا في القيمة الناتجة عن ثلاثية "الاكتشاف والإبداع والابتكار". فالموضوعات "الحية" هي الموضوعات المفضلة في هذا المجال، وهي الموضوعات التي تحتاج إليها السوق، وهي أيضا الموضوعات التي تستطيع أن تنبه السوق وتحفزها وتستجيب لمتطلبات كامنة لديها.
ولعلنا حرصا على توثيق معنى تعبير "الابتكار"، الوارد فيما سبق، والمرتبط بتحويل المعرفة الناتجة عن الاكتشاف والإبداع إلى فائدة مادية، نورد فيما يلي التعريف الأكثر انتشارا له. وهو التعريف الذي أطلقته "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، وأقرته أيضا "المفوضية الأوروبية"؛ يقول التعريف: "الابتكار هو بناء منتج جديد، أو مطور بدرجة عالية. ويأخذ هذا المنتج شكل: سلعة، أو خدمة، أو إجراء عمل، أو أسلوب تنظيم، أو طريقة تسويق. وتتضمن مجالاته: ممارسة الأعمال، وتنظيم شؤونها، والعلاقات مع الآخرين"، وهذه الأشكال جميعها تحمل قيمة مادية مباشرة أو غير مباشرة.
بعد ما سبق حول ثلاثية "الاكتشاف والإبداع والابتكار" نحاول فيما يلي استشراف دور الجامعات في تفعيل هذه الثلاثية عبر مهماتها الثلاث: "التعليم؛ والبحث العلمي؛ والمهمة الثالثة المرتبطة بالتفاعل مع متطلبات المجتمع". في مهمة "التعليم" نحتاج إلى بناء عقلية "الاكتشاف والإبداع والابتكار". عقلية الاكتشاف تقضي بالملاحظة والبحث عن "أسباب" ما يحدث في الطبيعة وعن "أثر" ما يحدث أيضا؛ وعقلية الإبداع تهتم باستخدام مهارات التفكير في إيجاد "الحلول" الناجعة للمشكلات المطروحة؛ وعقلية الابتكار تركز في التوجه نحو البحث عن "قيمة". ولهذه العقلية أهمية كبيرة ليس فقط في تقديم مكتشفات جديدة أو أفكار واعدة أو منتجات مفيدة، بل أيضا في فهم واستيعاب المكتشفات والأفكار والمنتجات القائمة.
وبالطبع تحتاج مهمة البحث العلمي إلى عقلية "الاكتشاف والإبداع والابتكار". ولا بد هنا من تركيز اهتمام هذه العقلية بصورة خاصة على الموضوعات الحية، وربما وضع أولويات تتضمن الموضوعات الأكثر حيوية أيضا. وترتبط مثل هذه الموضوعات بقضايا التنمية التي نتطلع إليها ونرغب في استدامتها؛ وتشمل تلك التي تساعدنا على الحد من الاستيراد، وعلى التمكن من التصدير، وعلى تشغيل الثروة البشرية على نطاق واسع، وبأجور تحفظ للإنسان حياة عزيزة كريمة. ولعل مثل هذه الموضوعات هي تلك التي تشملها الخطط الوطنية للتنمية.
ونأتي إلى المهمة الثالثة للجامعات، وهي مهمة التفاعل مع متطلبات المجتمع التي تشمل ثلاث وظائف رئيسة هي: "التعليم المستمر؛ ونقل التقنية والابتكار؛ وخدمة المجتمع". وتبرز أهمية عقلية "الاكتشاف والإبداع والابتكار" بصورة خاصة هنا في وظيفة "نقل التقنية والابتكار". وتتضمن هذه الوظيفة إطلاق "مؤسسات جديدة" Spin-Off Companies، تستند إلى مخرجات الابتكار، التي ترتكز بدورها إلى مخرجات الاكتشاف والإبداع، لتقدم منتجات وخدمات جديدة ومتميزة تحمل بذور النجاح، وتسهم في التنمية وتعزز استدامتها، بما في ذلك توفير فرص عمل جديدة.
لعل ما سبق قد أوضح ضرورة ترسيخ عقلية "الاكتشاف والإبداع والابتكار" في التعليم العالي، بل ربما تدريجيا في التعليم العام أيضا؛ ولعله بيّن أيضا الحاجة إلى الاهتمام "بالموضوعات الحية" اللازمة للتنمية. ولا شك أن هناك جهودا تبذل في هذا المجال في مختلف المؤسسات التعليمية، ولا شك أيضا أننا نحتاج إلى مزيد لأن دور التعليم عموما، ودور الجامعات خصوصا، دور مفتوح، وبغير حدود، لتطوير ما هو قائم فعلا، ولمزيد من الإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا.
وقد يكون من المناسب ونحن نتطلع إلى المستقبل آملين ترسيخ عقلية "الاكتشاف والإبداع والابتكار"، وآملين أيضا التركيز على "الموضوعات التنموية الحية"، أن ننظر إلى بناء "جامعات تقنية" تهتم بذلك، كما هو الحال في مختلف أنحاء العالم. مثل هذه الجامعات تختلف في توجهاتها عن "الجامعات الشاملة" التي تهتم بكل حقول المعرفة دون استثناء، وتؤمن للمجتمع "قاعدة معرفية حضارية متكاملة". الجامعات التقنية التي نحتاج إليها تتوجه نحو التنمية "بالعقلية وبالموضوعات أيضا"، وتحفز بناء حدائق تقنية تضم مؤسسات تقنية ناجحة من حولها، تدرب الطلاب، وتفتح أمامهم فرص عمل جديدة بعد التخرج، كما أنها تستفيد من مخرجات الاكتشاف والإبداع والابتكار، وتسهم فيها أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي