كيف قتلنا المبادرة؟

بذرة العلم غريزة حب الاستطلاع وبذرة النمو الاقتصادي المبادرة، تصرف الحكومة مبالغ كبيرة وتؤسس جهات عدة تهدف إلى خدمة المبادرين وتشجيعهم ولكن المبادر الكامن معطل. المبادر ليس شخصا محبطا أو بعيدا عن سوق العمل. ثم نطلب منه في الوقت الذي يناسبنا أن يسهم في الأعمال الاقتصادية من خلال المبادرة في عمل حر بينما نحن ننعم بالوظيفة في القطاعين الخاص أو العام. فمن يحصل على راتب مجز أحيانا يعرف أنه لا يستحقه ولكن بحكم الحظ والمصادفة أكثر منه من خلال منافسة وتكافؤ الفرص ووجد نفسه في وضعية مريحة لن يكون مبادرا. المبادر عادة شخص طموح ويحتاج إلى الكسب ولديه الروح والطاقة والثقة بالنفس. المبادر غالبا شخص يعمل بين نهاية العشرينيات ونهاية الثلاثينيات من عمره وغالبا ليس لديه شهادة تمكنه من وظيفة مجزية أو لديه شهادة شبه سطحية تجعله يبحث عن تفادي مواجهة الواقع العملي. أغلب هؤلاء المبادرين اليوم المفترضين لدينا يتوجهون لتعليم جامعي هامشي خادع في محتواه العلمي وناقص في إعداده العملي. هذه الفئة مغيبة عن سوق العمل في القطاع الخاص لأن الحكومة تسعى جاهدة لعمل كل ما يلزم لمنع الهجرة الاقتصادية لتدليل القطاع الخاص على حساب المواطن أو كما في السنوات القليلة الماضية تحاول الحكومة توظيف أكبر عدد ممكن. لمن يحصل على شهادة جامعية يبدأ سقف التوقعات يرتفع وتبدأ الرغبة في المخاطرة تضعف، تحت مسمى توفير الوظيفة الحكومية أو تشجيع القطاع الخاص أصبنا الاقتصاد السعودي في مقتل حيث حرمناه من فرصة تكثير المبادرين وفتح الفرص أمامهم.
المبادر الحقيقي ليس شخصا ضعيفا بل قويا وطموحا وقناصا للفرص ولكنك تستطيع هزيمته من خلال إيجاد بيئة غير مواتية أو حتى رفع درجة الصعوبات أمامه بسهولة. المبادرون عادة أناس تقبل العمل مبكرا في عمرها وتقبل بالعمل البسيط لكي تتعلم عمليا وتتلمس طريق التطوير من خلال التجارب والمرونة والاستعداد للتعلم من المحاولة الفاشلة. المبادر الحقيقي يعمل في الطبقة الأولية والوسطى الفنية المباشرة من الإدارة وهذه أصبحت حكرا على الوافد رغبة في تحقيق مصالح رجال الأعمال على حساب تطوير المواطن والنمو الاقتصادي. المبادر الحقيقي غالبا لا يحتاج إلى مساعدة الأجهزة الحكومية بل إن النزعة الطبيعية أن يتفادى العوائق البيروقراطية، أثبتت التجارب أن المبادر يوفر المال القليل ليبدأ ويستجدي الأقارب والأصدقاء المال القليل وليس قرضا حكوميا أو حتى مصرفيا للبداية، المبالغ المؤثرة تأتي الحاجة إليها لاحقا وبعد أن يصبح ليس مبادرا ولكن رجل أعمال. نقتل المبادرة حين نفتح الباب للغالبية للدراسة الجامعية بينما الكل يعرف أن أكثر من نصفهم غير مستعد ونقتل المبادرة حين نفتح باب التستر تحت مسمى مساعدة القطاع الخاص ونقتل المبادرة حين نقدم قروضا لمن ليس مبادرا ونقتل المبادرة حين نؤسس منظمة حكومية تعنى بهم ولكن تصرف جل طاقتها لتقديم التسهيلات للمستثمر الأجنبي ولكن تعرف أنه لن يأتي بسهولة وإذا أتى ليس بسبب جهودهم.
سلم القيمة المضافة في الاقتصاد طويل ولن يكون في منحنى صاعدا دون تعرجات ولذلك سوف يقوم المبادر الأول بالتجارة لأنها أسهل وأقرب للتجربة العربية ولكن مع الوقت ووعي الحكومة لهيكل الحوافز ممكن أن نرتقي كي يرى المبادر الفرص في الصناعة والمعلوماتية والخدمات وفتح آفاق جديدة للأعمال لا يمكن التنبؤ بها. كلما تنوعت القطاعات يجد المبادر فرصا أكثر للتقريب بينهما وتقوية النسيج الاقتصادي وتعميقه. المبادر الحقيقي لديه ما يسوقه ولا يلتفت لأحد رسميا كان أو غير رسمي. في أدبيات الطرح التقليدي لدينا سوف تجد من يقول لك إن كثيرين من المبادرين في الغرب مهاجرون ولكن هذا في نظري خطأ في هذه المرحلة، اقتصادنا الوطني في مرحلة السهل وأول السلم ولذلك فإن استقبال مبادرين من غير المواطنين أقرب إلى السماح بقبول وافدين للتجارة وليس للاستثمارات والمبادرة. استغلال وتعظيم المصلحة الوطنية من درجات السلم الأولى تقتضي حصر الفرص على المواطنين ولكن أيضاً لا بد من تشجيع المنافسة بينهم، الحاجة لما يشابه سياسة الغرب نحو المبادرين تأتي بعد عشر سنوات على الأقل إذا أجدنا العمل.

ما الحل؟
لن يتحقق نمو اقتصادي طبيعي دون دور مؤثر للمبادرين. الحل أن توسع القاعدة العريضة التي يتخرج منها المبادرون وأن تصلهم الرسالة الظاهرة والضمنية. الظاهرة بتوفير أعدادهم بتقليل فرص التعليم الجامعي شبه المزيف والسطحي وأن تمكنهم من التوظيف في القطاع الخاص من خلال حمايتهم من المهاجر الاقتصادي في أعمال الجميع يعرف أنها لا تتطلب تعليما مميزا أو معرفة نوعية، والضمني من خلال قطع الطريق على تكبير الجهاز الحكومي. الرسالة الخطأ تصل الجميع، فكلما حاولنا "مساعدة" المواطن بالتوظيف غير الإنتاجي ضيقنا الفرصة على مساحة المبادرة. فرص المبادر ومساحة عمله وجهان لعملة واحدة تقابلها عملة أخرى بوجهين التعليم الجامعي المسطح والهجرة الاقتصادية دون قياس. حين تغيب الأمانة الفكرية يصبح المبادر أحد الضحايا فقط لأن ما يتبعه من ضحايا أكبر بكثير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي