بحثا عن مصالح آنية .. تراجع الأقطاب المسؤولة وصعود الميليشيات المدفوعة

بحثا عن مصالح آنية .. تراجع الأقطاب المسؤولة وصعود الميليشيات المدفوعة
تفشي الميليشيات يفضي إلى عالم أقل سلاما وبراعة في التصدي للتحديات التي يواجهها.
بحثا عن مصالح آنية .. تراجع الأقطاب المسؤولة وصعود الميليشيات المدفوعة
العالم يشهد اليوم نهاية حقبة من تاريخه، وبزوغ أخرى جديدة برعاية الدول الممولة للإرهاب.

ثمة مزحة قديمة حول ثلاثة حكام بيسبول يناقشون فيما بينهم حقائق الحياة في تلك اللعبة. يقول الحكم الأول "أسمي الأشياء وفقا لرؤيتي لها". بينما يقول الحكم الثاني "أسمي الأشياء مثلما هي". أما الحكم الثالث والأخير فيقول "الأشياء لا تكون، حتى أسميها".

يبدو أن مضمون هذه المزحة ينطبق على العالم الراهن أشد الانطباق، فالبحث عن الحقائق الموضوعية حيال ما يجري على أرض الواقع من أحداث، أضحى أقرب إلى من يجري وراء ملاحقة السراب في صحراء قاحلة. وقد يحدث أحيانا أن يمسك الإنسان بالحقيقة في هذه الرقعة الجغرافية من الكوكب الأزرق، ثم لا تلبث أن تنقلب إلى وهم وخرافة، بمجرد ما تتغير إحداثيات تموقعه الجغرافي عند الانتقال إلى منطقة أخرى من العالم.

#2#

يقع كل هذا ببساطة لأن تقدير المواقف تجاه ما يجري، يختلف باختلاف الأطراف وتباين مصالحها. فقد ترى بعض الدول هذه الجماعة منظمة إرهابية، بينما تعتبرها دول أخرى حركة مقاولة بامتياز. ويحدث أن ينظر جزء من العالم إلى نظام بكونه أساس المشكل في دولة معينة، لا بل رأس المشكلات في إقليم بأكمله، في حين يرى آخرون نظاما شرعيا تحاك ضده مؤامرة دولية، ما يعني أن الوقوف إلى جانبه ومساندته في هذه الظروف أولوية وطنية وطائفية، إن تصل درجة كونها إحدى المهام المقدسة.

وهكذا وجد المحللون والمختصون أنفسهم واقعيا أمام مزحة الحكام الثلاثة، والحكام في سياق حديثنا كناية على الدول. فمنها من تختار أن تسمي الأمور بمسمياتها، وما أقل عددها وتأثيرها في سياق الأحداث العالمية. بينما تفضل أخرى أن ترى العالم بالنظارات التي تنتقي لنفسها، ووفق البراديجم التحليلي والتفسيري الذي يتوافق مع هواها. أما الثالثة فهي تلك الدول التي تصنع الحقائق، وتفسر الأحداث وتؤول الوقائع وفق ما تريد أن تراه على أرض الواقع، وكل ما يأتي خارج أطروحتها لا اعتبار له في ميزان التقييم.

على هذا الأساس أضحت الأوضاع تتقلب من يوم إلى آخر، وكأننا في بورصة أسهم قوامها الارتفاع والانخفاض وفقا لقوانين العرض والطلب في السوق، وباتت الحقائق تتلون بشكل حربائي. يصل في بعض الأحيان درجة اللا أساس، وانعدام المنطق فيما يخص سياسات بعض البلدان، حيث تمسي الدولة من أنصار هذا الطرف فيما يتعلق بهذه القضية، قبل أن تصبح ضمن حلف الطرف النقيض في قضية أخرى.

بعيدا عن الفوضى العالمية التي نعيش منعطفاتها واحدا تلو الآخر، ننبه إلى أن ما يعرف بالحقب التاريخية مسألة يصعب تمييزها قبل أن تنتهي. فلم يصبح عصر النهضة معروفا بعصر النهضة إلا في وقت لاحق. ويصدق نفس القول على العصور المظلمة "أو القرون الوسطى" التي سبقت عصر النهضة، أو أي عصور أخرى. يكمن السبب ببساطة، في استحالة أن نعرف ما إذا كانت التطورات الواعدة أو المثيرة للقلق تأتي منفردة أو تمثل بداية اتجاه دائم.

وهنا أزعم، على الرغم من ذلك، أن العالم يشهد اليوم نهاية حقبة من تاريخه، وبزوغ فجر حقبة أخرى جديدة. فمن الحربين العالميتين إلى الحرب الباردة مرورا بسقوط جدار برلين ثم ما تلاه من تفكك للكتلة الشرقية، فعصر التفوق الأمريكي بعده، مرفوقا بالازدهار المتزايد الذي تحقق لكثيرين، وظهور عدد كبير من المجتمعات والأنظمة السياسية المنفتحة نسبيا، وما لازم ذلك سيادة سلام نسبي فيما يخص صراع الكبار.

لقد انتهى ذلك العصر، لتبدأ حقبة جديدة أقل خضوعا للنظام وأقل سلمية، فالصراع الأيديولوجي القائم بين المعسكرات انتهي لانعدام الأقطاب التي ترعاه، وتتولى تدبير شؤونه وخططه. إذ الرهان بين القوى الكبرى "أمريكا، روسيا، الصين، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا..." اليوم على المصلحة الآنية.

وجاء كبديل عنه ما بات يعرف بين المختصين في الشؤون الدولية بالكيانات الفاعلة غير التابعة لأي بلد أو جهة دولة؛ ومن جملة ما تتضمنه المنظمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، إضافة إلى الشركات الكبرى، وكذا المنظمات غير الحكومية. فهذه الكائنات تحولت بشكل لافت إلى فاعل ومؤثر في المتغيرات التي تجري أطوارها، وقد لا نبالغ إذا ما قلنا إن تأثيرها أحيانا يكون أكبر من ذاك الذي تمارس الدول.

ألم يستطع تنظيم داعش على سبيل المثال أن يستعيد أسلوب الاستيلاب الأيديولوجي الذي كانت الأقطاب تمارسه على الشباب زمن الحرب الباردة، مع إدخال تحسينات عليه حتى يستجيب للظروف الراهنة، ما حوله إلى تقنية جيدة بها يبدأ "التنظيم" مع مريديه على المستوى الفكري، لينتهي به المطاف في التنفيذ العملي من خلال القتال الميداني.
ختاما يظهر أنه من المرجح أن تبقى الفوضى في عالم بلا أقطاب لسنوات مقبلة، بفعل إصرار القوى الكبرى على التفكير في اللحظة الراهنة فقط، ما يجعل أثرها في الامتداد الزمني محدودا بفعل هذه السياسة. إضافة إلى غياب الإجماع الدولي حيال ما يجري في العالم، دون إغفال مسألة انحسار نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية دون أن تتمكن أي قوة دولية أخرى من الحلول محلها.

والنتيجة طبعا هي عالم أقل سلاما وأقل ازدهارا وأقل براعة في التصدي للتحديات التي يواجهها مقارنة بحال العالم في حقب سابقة. وقد لخص أحدهم هذا الواقع في قولة بليغة مفادها "بمجرد فتح أعيننا، ربما نرى العالم من منظور جديد، بيد أننا لا نستطيع أبدا العودة إلى المنظور القديم".

الأكثر قراءة