الاستقدام أبعد ما يكون عن الانضباط

ظاهرة بينة في مجتمعنا، ويشاركنا فيها أشقاؤنا في الخليج، لا تخطئها العين، وهي أن باب الاستقدام لدينا مفتوح على مصراعيه لحاجة ولغير حاجة. الاستقدام بحد ذاته أمر مقبول ومتعارف عليه بين الشعوب. وانتقال العمالة بين الحدود له حدود ومبررات، وتشترك فيه الدول الغنية والفقيرة. فالدول الصناعية التي من الممكن أن ننعتها بأنها متقدمة تستقدم عمالة أجنبية في مختلف الأعمال والمهن التي لا يتوافر لديها منها قوى بشرية كافية محلية. ولكن ذلك يتم بضوابط وليس عشوائيا، كما هو حاصل اليوم في بلادنا. ولا بأس من تبادل المصالح بين الأمم ما دام ذلك يراعي متطلبات الاقتصاد المحلي للدولة المستقدمة. وقد يكون الاستقدام لإقامة مستديمة أو لفترة زمنية يغادر المستقدم البلاد بعد انتهائها، وهو المعمول به في دول الخليج.
والإشكال في هذا المقام أننا في بلادنا توسعنا في الأمر حتى أصبح كثيرون يستقدمون العمالة الأجنبية ليس لعدم وفرة الأيدي المحلية، بل من أجل التكسب من ورائهم. نعم، هناك من يستقدم العامل ليس ليعمل لديه بل ليعمل العامل لحسابه الخاص مقابل مبلغ تافه من المال يتسلمه منه نهاية كل شهر. أو بمعنى آخر، يصبح المواطن أجيرا وهميا عند العامل الأجنبي وهو جالس في بيته. ومهمة المواطن هي الاحتفاظ بجواز المستقدم ومنحه اسمه ليعمل تحت طائلته وكفالته. والذي يلفت النظر عدم وجود رقابة حكومية على مستوى دخل العمالة التي تعمل لحسابها وتتصرف بأموالها كيفما تشاء. فليس لدينا ضريبة دخل أسوة بمعظم دول العالم. وهو شيء جميل بالنسبة للمواطن، ولكنه قد لا يكون كذلك عندما يكون المستفيد لا يحمل الجنسية الوطنية للبلاد. ولعله من نافلة القول أن نذكر أن العمالة التي تعمل لحسابها وتوفر مكاسب كبيرة في أغلب الأحوال، تستفيد أيضا من عوامل اقتصادية أخرى، كالوقود والكهرباء والماء وبعض المواد الغذائية التي تمنح للمواطن بأقل من تكلفتها. إلى جانب الضغط على البنية التحتية. ولذلك فمن الممكن أن نصنف وجودهم على أنه "عالة" على الاقتصاد الوطني. والعمالة التي نقصدها هي التي لا تضيف شيئا إلى اقتصادنا، كالتي تمارس تجارة التجزئة وتحتل مئات الألوف من الدكاكين المنتشرة عشوائيا في شوارع مدننا دون أي ضوابط أو تنظيم سليم. ويتبعها كثير من الورش الصناعية.
ما نتحدث عنه هنا ليس سرا من الأسرار، بل يعرفه القاصي والداني، ولكن الكل يغمض عينيه عن الواقع، رغم وضوحه. بلادنا - ولله الحمد - بلاد الخير والعطاء، ولسنا ضد من يأتي إلى هنا ممن هم بحاجة إلى مصدر العيش الكريم ممن ينتمون إلى دول ذات دخل محدود، وعطفنا عليهم وشفقتنا بهم يكادان يغلبان الشعور بعدم الرغبة في بقائهم. ولكن في المقابل، مستقبل أجيالنا مرهون بما سوف يتبقى لهم من الثروة البترولية الناضبة. ونرجو أن يكون من أهداف "رؤية 2030" تقنين الإنتاج وتحجيم المشاريع بما يتناسب مع أبعادها التي تتطلب - من بين أمور كثيرة - إدماج المواطن في المشاريع التنموية، وهو ما يستدعي الاستغناء عن عدد كبير من العمالة الوافدة، وعلى وجه الخصوص تلك التي لا يضيف وجودها أي قيمة مضافة إلى اقتصادنا الوطني. وإنما ربما العكس، فنسبة كبيرة منها ينهكون الوضع الاقتصادي ويضايقون المواطن في مجال بعض الأعمال، وهو أولى بها.
نحن نشير هنا إلى العمالة التي يتم استقدامها تحت مسميات غير مهنية، مثل البيع في المحال التجارية التي تنتهي بقدرة قادر بتفويض الأجنبي التصرف الحر بكل ما يقوم به من عمل. أو طلب العمالة تحت مسمى مشاريع وهمية ينتهي بهم مصيرهم إلى البحث في الشوارع عن أي عمل. وهو ما يعني أننا لسنا بحاجة إليهم. فما عليك إلا أن تلقي نظرة سريعة في الصباح الباكر لتشاهد أعدادا كبيرة منهم يقفون على الأرصفة انتظارا لطلب عمال بصفة مؤقتة. ولو أمعنت النظر في وجوههم ومحياهم لبدت لك معالم الحرج الذي يكسوها خوفا من مرور يوم كامل دون عمل وهم ملزمون بدفع مبالغ شهرية معينة لكفلائهم.. تختلف التقديرات لعدد غير المواطنين، ولكنه يفوق عشرة ملايين نفس.
فإلى متى يستمر الأمر على وضعه الحالي؟ وإلى متى يرتفع عدد الوافدين بما يقارب المليون سنويا؟ ومهما قيل عن اقتصادنا، بأنه قوي ويتحمل أي نوع من الضغوط، فهو سيظل تحت رحمة دخل البترول المتذبذب. ووجود أعداد هائلة من العمالة الأجنبية لن يساعد على إيجاد أعمال مثمرة لأبنائنا ولا على تأهيلهم ليكونوا شبابا منتجين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي