تنظيم الحج .. مهمة جبارة لا تتصدّى لها إلا دولة كبيرة!
من تابع أعمال الحج من كثب، أو زار الأماكن المقدسة، وشهد أعمال التطوير والبناء والتشييد المستمرة طوال العام، للطرق والمرافق والخدمات، لا يسعه إلا أن يقف إكبارا وإجلالا للجهود التي تبذل في سبيل تيسير الحج، وتسهيل أداء نسكه على الأمة الإسلامية، ويتبين له بجلاء، أن وراء تلك الجهود أمة تنظمه، ودولة كبيرة هي المملكة العربية السعودية!... وأنه لا يمكن أن تكون الصورة والوضع في الأراضي المقدسة كما هما عليه الآن، لو لم تكن المملكة راعية هذه الأماكن، ومسؤولة عنها، ومؤتمنة عليها!..
ها هم شهود الله في أرضه، حجاج هذا العام، الذين يكاد عددهم يلامس الثلاثة ملايين مسلم، الذين أتوا من أكثر من 180 دولة، يشاهدون ويشهدون ما وصلت إليه مرافق الحج من رقي وتقدم، وحسن إدارة وتنظيم، تيّسر بسببه للكل، أداء مناسكهم بطمأنينة وسهولة، لمحنا آثارهما بادية على الوجوه والسمات، عبّر عنها من أتيحت لهم الفرصة من الحجاج، عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية، يقول كلمة الحق، التي لا يمكن إلا أن تكون صادرة عن إيمان مطلق بما يقولون، وهم يقفون أمام الخالق، في أقدس بقعة على وجه الأرض، وليس ثمة شك في أن كل حاج سينقل لأهله ومعارفه ومواطنيه بعدما يعود، تفاصيل ما شهدت به جوارحه، من أحاسيس روحانية، وهو يؤدي حجه، أينما حل أو ارتحل، بطمأنينة، في مرافق لم يشهد غيرها، من الرقي والتقدم والبذل مثلما شهدت!..، أليس هناك أماكن مقدسة أخرى في العالم يؤمها من يعبدون الله، لم تجد من العناية والتطوير مثلما وجدت الأماكن المقدسة هنا؟!
في علم الإدارة، تعلمنا أن أبسط تعريف للإدارة هو (توجيه جهود العاملين لتحقيق الهدف المرسوم بأيسر السبل وبأقل قدر من الخسائر)؟!.. وها قد نجحت الدولة بقيادة رأسها الأكبر خادم الحرمين الشريفين في تحقيق الهدف، وهو تيسير أداء مناسك الحج لأمة محمد)، بواسطة هذه النخبة المختارة المؤلفة وعشرات الآلاف من العاملين المهرة، المدربين على أداء أعمالهم أحسن تدريب، وإشراف رؤسائهم المباشرين، وبقيادة مديريهم، من أعلى سلطة في الهرم الإداري في الدولة، وهو خادم الحرمين الشريفين، إلى ولي عهده، إلى وزير الداخلية ومساعديه، إلى أمير مكة الجديد المتحمس للأداء والإبداع، إلى العلماء والوزراء، وقادة الأمن بكافة قطاعاته، إلى الجندي، وانتهاء بعامل النظافة الذي يميط الأذى عن طريق الحاج؟!..، ولم يُستثن جهاز واحد من أجهزة الدولة من مسؤولية المشاركة، سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة في أعمال الحج، كل في موقعه، وكل في حقل تخصصه وما أنيط به، من أبعد نقطة على حدود المملكة، إلى مركزها الروحاني وهو الكعبة!.. ومن هذا يتأكد لدينا أن إدارة أعمال الحج تجسد المهنية الراقية لتوظيف علم الإدارة، وهي بهذا تصلح أن تكون نموذجا يحتذى، على مستوى العالم، للنجاح في توجيه الجهود لإدارة الحشود، رغم ضيق المكان ومحدودية الزمان؟!
لقد رأينا هذا العام شيئا لم نره من قبل في الأعوام السابقة، عندما يجلس، من لم يحج منا، متكئا على الأرائك، أمام وسائل الإعلام السعودية المرئية، وهي تنقل لنا وللعالم أجمع، على مدار الساعة، ولحظة بلحظة، صورة حية لما يجري في المشاعر، وأن نستمتع برؤية الرامين والطائفين والساعين، وهم يؤدون مناسكهم في غاية السرور والطمأنينة، دون أن نتخيل، إلا من وهبه الله رؤية ثاقبة، مقدار الجهود التي تبذل، والعناء الذي يصيب العاملين جرّاء كل حركة من حركات الحج، وإيصال المشاهد الروحانية الحية المشرقة، إلى نواظرنا وأسماعنا، ومن حولنا العالم أجمع!..
ويحسن ألا ننسى، أنه في علم الإدارة، أيضا، تلعب الخبرة، عندما تقترن بتأهيل، وإخلاص العاملين، ووضوح الأهداف دورا كبيرا في إنجاح العمل لك أن أي عامل يجد صعوبة، في البداية، في أداء الواجبات المكلف بها، ما يلبث، مع التدريب، والتوجيه، أن يؤدي ذات العمل بصورة آلية، وبجهد الكل، وفي وقت أقصر، بخاصة عندما يلمس التحفيز والتقدير، إذ هما من مهمات الإدارة الناجحة!.. وقد استفادت الدولة من الخبرات المتراكمة، التي اكتسبتها، عبر سنين طويلة، في إدارة مواسم الحج، في إضفاء التحسين والإبداع لتطوير وتلافي الخسائر، وسد الثغرات، إلى أن وصلت الأمور إلى ما نشاهده اليوم، وسنشهده غدا وبعد غد في مواسم قادمة!..
ائتوني بدولة تستطيع أن تدير هذه النوعية من الحشود في المكان ذاته، وفي الزمان ذاته، بهذه النسبة العالية من الاقتدار والنجاح، غير المملكة؟! ائتوني بدولة تستطيع أن تنفق على عمارة الحرمين، والمشاعر، ومرافق الحج، وما يتصل بها من طرق وجسور وأنفاق، ومبان وخدمات، مثلما تنفق المملكة؟!
ائتوني بدولة تتحول أجهزتها، قبل وخلال وبعد، موسم الحج، إلى غرفة عمليات كبرى مسخرة للحج، وليس غير الحج، غير المملكة؟!
بل ائتوني بدولة تستطيع أن تنفق على مرفق واحد، هو جسر الجمرات، أكثر من أربعة مليارات ريال، وكله من أجل تلافي الزحام، وأن يؤدي الحاج هذا النسك بيسر وراحة، كما رأينا، رغم أن الجسر لما يكتمل بعد، غير المملكة؟!
ثم ائتوني بدولة تحسب لكل شيء حسابه، وتستعد له، مما لا يعلمه العامة، لا من شهد المناسبة!.. حتى الجزارين، تستقدمهم المملكة بالآلاف لنحر الهدي والأضاحي، على الأصول الشرعية، في مسالخ ليس لها مثيل في العالم!
حتى السائقين تستقدمهم المملكة لتولي قيادة حافلات الحجاج، وسد النقص في هذه الخدمة خلال موسم الحج!.. ماذا بقي؟!: أشياء كثيرة لا يمكن حصرها.
..... أسوق مثالا آخر وأخيرا، حتى الحلاقين، توفرهم الدولة بالآلاف لحلاقة شعر الحجاج بعد تحللهم من الإحرام بطريقة صحية، نأيا بهم عن مخاطر الأمراض والعدوى!..
إن تعداد نواحي البذل ومجالاته وحجمه غير وارد، وغير قابل للحصر، لكنها أمثلة، على الكل أن يتأملها، ولا سيما المزايدون والمشككون!..
يضاف إلى ذلك كله، أن الدولة ما إن تنتهي من أعباء موسم الحج وإرهاصاته، إلا وتعكف من جديد على تلمس أوجه التحسين والتطوير في كل شيء، وهي تستشعر دورها ومسؤوليتها، إلى أن يأتي الموسم الآخر، وهي بهذا تدرك وتؤمن بما رسمه علم الإدارة من قبل، من أن (هناك دائما وضعا أفضل من الوضع القائم) حتى يستمر النجاح والتطوير!..
أما ما قد يحدث من ازدحام وارتباك أو اختناق أثناء التحرك والانتقال، فهو، إن وجد، لا سمح الله، لا ينقص ولا يخدش الصورة المشرقة للأداء الراقي للدولة وأجهزتها، بل هو أمر متوقع، عند إدارة وتوجيه ثلاثة ملايين فرد في مكان ضيق، وخلال زمن محدد؟!.. ولا سيما مع اختلاف الثقافات وتباين اللغات واللهجات، ونقص الوعي لدى قسم كبير منهم، ولا ننسى بلوغ الغالبية منهم مراحل الشيخوخة!..، ألم تشاهدوا تلك المقابلة التي جرت مع حاج تجاوز الستين عاما بصحبة والده الشيخ المسن، وهو يشيد بما يراه ويلمسه؟!.. أليس ذلك دليلا رمزيا على النجاح!؟ ثم، ألم تحصل في العالم اختناقات ووفيات وفي حشود تتضاءل أمام هذا الحشد الكبير، في ملاعب كرة القدم، وفي مدن الملاهي، في أماكن مقفلة أو مفتوحة على حد سواء؟!.. ألم تسقط جسور بمن عليها؟!.. أختم قولي هذا بالحمد والشكر لله عز وجل على ما أعطى ويسّر، وبإزجاء تحية إكبار وتقدير لكل من ساهم في تحقيق النجاح، مهما تكن مهمته، ومهما يكن موقعه!..
والله من وراء القصد