الأوقاف .. منظومة للقواعد والمعايير
يدرك الجميع أننا أمام تحولات اقتصادية لم يعهدها المجتمع السعودي من قبل، وجميع المؤشرات تدل على ذلك، ولذا هناك توجس التغيير الجذري الذي قد يصاحب هذه التغيرات ونلمس العذر للجميع في هذا، فالإنسان عدو ما يجهله، والمستقبل مجهول في حد ذاته، فكيف إذا صاحبته تغيرات جوهرية، لكن التغيير ضرورة حياة، ضرورة بقاء، لا يمكنك الوقوف تنتظر نتائج حركة الآخرين، ذلك أن التراجع هو مصير الواقفين بينما يتقدم الآخرون بجانبهم، وإذا كان الاقتصاد السعودي سيعمل حتما لمواجهة المتغيرات الاقتصادية والسياسية المتسارعة فإن عليه أيضا أن يبحث عن مرتكزاته وقواعد انطلاقه، وهذا ما يحدث في الواقع الآن، فهناك من يعمل ليعيد تهيئة الاقتصاد السعودي لمرحلة جديدة مهمة ستكون بإذن الله أكثر إشراقا، ولعل إبراز القضايا التي بدأ الاقتصاد السعودي يعيد ترتيبها قضايا الاقتصاد الإسلامي ومفاهيمه. وأبرز تلك المفاهيم طرحا على الساحة اليوم هي الأوقاف.
للحقيقة فقد وجدت الأوقاف اهتماما واسعا في المملكة منذ تأسيسها، فأسست المملكة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ووضعت للأوقاف والمساجد إدارة خاصة بها، ثم تطور الاهتمام بها حتى تم إنشاء مجلس أعلى للأوقاف، ثم تم أخيرا إنشاء هيئة مستقلة لهذا الغرض، وذلك بعد أن استكملت حلقات "رؤية المملكة 2030" وظهر أن قطاع الأوقاف في المملكة ومفاهيم الوقف والاقتصاد الإسلامي بشكل عام تمثل مرتكزا اقتصاديا حقيقيا يمكن أن يصبح رافعة اقتصادية عملاقة. وعلى الرغم من أنه لا توجد إحصائية دقيقة لحجم أصول الأوقاف في المملكة وحجم إسهامها في الاقتصاد الكلي لكن التقديرات تشير إلى أنها تتجاوز (كأصول) مئات المليارات، وهي تدار بطرق شتى ومختلفة وتتركز في مكة والمدينة، ومع ذلك فإن مساهماتها في إجمالي الناتج المحلي محدودة وكذلك مساهمتها في تشغيل العمال.
وهكذا فإن التحول الاقتصادي في هذا المجال بدأ فعلا بتبني مفاهيم الوقف في إيجاد فرص عمل واسعة والمساهمة الجادة في النمو الاقتصادي وهذا التبني ظهر مع إنشاء هيئة الأوقاف التي يتم العمل على استكمال حلقاتها مع استكمال أعضاء مجلس الإدارة، كما أشار وزير العمل والتنمية الاجتماعية إلى ذلك، فالأوقاف تمثل صندوقا استثماريا ضخما جدا، ولكن ما يميز الأوقاف عن أي صندوق أنها بلا ملاك سواء كانوا اعتباريين أو حقيقيين، فهدفها الأول والأخير هو التنمية الاجتماعية، وتوفير فرص العمل، وهذا يمنح الأوقاف هامشا واسعا من الحركة دون الارتباط بتوزيعات أرباح، وسيكون دور هيئة الأوقاف هو تحفيز قطاع الأوقاف بشكل عام في المملكة ومساعدة كل واقف على إدارة وقفه ونشر ثقافة الوقف التنموي الموجه لتغطية الاحتياجات التنموية وبناء أنظمة حوكمة تتناسب مع مفاهيم فقه الأوقاف. والمرجو من هذا القطاع في المستقبل أن يتوسع بشكل كبير ويركز على البرامج التنموية المجتمعية كالمستشفيات والمدارس والمراكز الثقافية وغيرها من الأمور.
ما تعاني منه الأوقاف اليوم هو تشتت الأمر وتنوع الخبرات وعدم وجود مرتكزات لمعايير وقواعد عمل منظمة بحيث تتيح وتشجع الأوقاف وأيضا تضمن سلامة إدارة هذه الأوقاف وسلامة ماليتها والمحاسبة عنها وإعداد قوائمها المالية، لهذا فإن أهم أعمال الهيئة القادمة هو بناء هذه المنظومة من قواعد الحوكمة المناسبة، وضبط معايير المحاسبة المقبولة، وضبط مؤشرات المسؤولية الاجتماعية ومن ثم مراقبة وتقييم الأوقاف.