ترشيد الإنفاق على الجامعات .. هل كان وفقا للأولويات؟
إذا كان الهدف من ترشيد الإنفاق على الجامعات الحد من النفقات الحكومية، فالسؤال الأهم: هل تم بالفعل تقليص النفقات وفقا لأولويات الجامعات؟
فمثلا الشركات عندما تخفض ميزانياتها، فإن أولية خفض الإنفاق تبدأ بالأنشطة غير المرتبطة مباشرة بنشاطاتها كالأنشطة المساندة وتسعى قدر الإمكان إلى عدم المساس بالأنشطة المرتبطة بما يعرف بـ Core Business. عند تطبيق هذا المبدأ على الجامعات نجد أن ما حصل لها كان العكس. فالحد من النفقات بدأ بالأنشطة المباشرة لعمل الجامعات خصوصا مميزات أعضاء هيئة التدريس وبدل السكن لغير السعوديين، بينما لم يشمل القرار الحد من أعمال يمكن تصنيفها على أنها أعمال مساندة أو إدارية كمكافآت رئاسة الأقسام والعمادات المختلفة أو حضور جلسات الأقسام أو الكليات وغيرهما من الأنشطة الجانبية!
عند النظر إلى الجامعات في أوروبا الغربية كألمانيا والمملكة المتحدة وغيرهما، نجد أنها لا تقدم أي مبالغ مالية نظير قيام أعضاء هيئة التدريس بمهام إدارية، لأن هذا العمل جزء من المسؤولية المشتركة بين أعضاء هيئة التدريس. لذا فتقبل أعضاء هيئة التدريس مزاولة المهام الإدارية كـ "مسؤولية" و"تكليف" وليست "ترقية" أو "تشريفا" أو وسيلة لزيادة الدخل المادي الشهري. لذا لا تجد "التسابق" لتولي المهام الإدارية بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المميزة، لكونها مسؤولية "حقيقية" وليست مجالا للحصول على دخل إضافي أو كسب نفوذ. فمن سلبيات الإنفاق على الجوانب المساندة والإدارية بدلا من الجوانب الأكاديمية من بحث علمي وتدريس، أنه أصبح من المشاع تضخم الهياكل التنظيمية للجامعات وضعف فعاليتها في تسريع القرارات وعدم تكاملية صناعة القرارات بداخلها. كما أنه أصبح من المشاهد أن الهيكلة الإدارية لعديد منها لا تهدف إلى رفع كفاءة العمل وزيادة انسيابيته، وإنما لأجل زيادة المناصب الإدارية ومن ثم زيادة الهدر المالي في جوانب غير مرتبطة بالعملية التعليمية.
هذه البيئة أضعفت الاهتمام بالأبحاث العلمية في عقلية عضو هيئة التدريس على الرغم من أنه في اللائحة القديمة لوزارة التعليم لم تكن المكافآت المخصصة للجوانب الإدارية عالية بل كانت رمزية. فمثلا وحسب لائحة التعليم العالي كانت مكافأة رئاسة الأقسام 500 ريال بدلا من 1500 ريال والعمادات كانت بمبلغ 1000 — 1500 ريال بدلا من 2000 - 2500 ريال كما هي الآن.
كما أن حضور مجالس الكليات والأقسام كان مجانا ودون مقابل مالي بدلا من 300 ريال مكافأة حضور الجلسة الواحدة للقسم و400 ريال مكافأة حضور مجالس الكليات حاليا. كما أن لائحة وزارة التعليم العالي دعمت من يزاول أعمالا إدارية عبر تقليص النصاب التعليمي عنه. لذا فمن الغريب أن يتم التركيز على حسم البدلات المباشرة للعلمية التعليمية بينما يتم التغاضي عن البدلات المتعلقة بجوانب إدارية ومساندة غير علمية أو بحثية.
لذا نجد أن جامعاتنا تتنافس من أجل زيادة امتيازاتها وأعمالها الإدارية المختلفة بمعزل عن المشاركة في حل تنمية المجتمع وتقديم حلول لمختلف قضايا المجتمع، نجد أن الجامعات الغربية تتسابق فيما بينها في كيفية الحصول على تمويل أكبر من مخصصات الأبحاث لأنها من أهم معايير التقييم العلمي لها. فالتنافس لدى الجامعات الغربية المميزة في السعي نحو الحصول على مخصصات بحثية أكبر من أجل خدمة المجتمع وإثراء المادة العلمية التي تقدم للطالب.
ما أخشاه أن سياسة ترشيد الإنفاق ستحد من دعم الأبحاث العلمية ومخصصاتها لدى جامعاتنا. لذا أعتقد أننا بحاجة إلى دعم البحث العلمي داخل الجامعات عبر تحويل الميزانيات المخصصة للجوانب الإدارية داخل الجامعات كمكافآت رئاسة الأقسام والعمادات المختلفة وحضور جلسات القسم والكليات إلى مخصصات تصرف لدعم الأبحاث العلمية.
فإذا كان الطالب محور العملية التعليمية، فإن الأبحاث والدراسات العلمية هي التي تثري المحتوى العلمي للجامعات، ومن ثم ترفع جودة المخرجات الجامعية. لذا لم تتجاهل لوائح التعليم العالي هذه الحقيقة، بدليل أنها ركزت على الإنتاج العلمي كأحد أهم معايير الترقية لعضو هيئة التدريس. فحسب المادة (27) من لائحة التعليم العالي فإنه يتم تقويم عضو هيئة التدريس المتقدم إلى الترقية على أساس 100 نقطة مقسمة على النحو التالي: 60 نقطة على الإنتاج العلمي و25 نقطة على التدريس و15 نقطة فقط على خدمة الجامعة والمجتمع. كما أن اللائحة ذكرت أنه لا يجوز للجامعات تعديل أو توزيع النقاط، خصوصا النقاط المتعلقة بالإنتاج العلمي أو التدريس. بل إن المادة (28) من اللائحة نصت على ألا يقل ما يحصل عليه المرشح للترقية عن 35 نقطة في مجال الإنتاج العلمي للترقية إلى رتبة أستاذ مشارك و40 نقطة للترقية إلى رتبة أستاذ.
إسهام أعضاء هيئة التدريس بالأبحاث المختلفة سيوجد تباينا علميا ومن ثم تباينا في قيمة أعضاء هيئة التدريس في سوق العمل ليس داخل الجامعة فقط وإنما خارجها. فمثلا لدى عديد من الجامعات الغربية تباين كبير في الدخل السنوي لأعضاء هيئة التدريس بسبب اختلاف قدراتهم على المشاركة بفعالية في التنمية.
إذا لم تستطع البيئة التعليمية إعادة ترتيب أولويات الإنفاق ومن ثم إيجاد تباين بين أعضاء هيئة التدريس بناء على مكانتهم العلمية، فإن المكانة العلمية للجامعات السعودية ستراوح مكانها إن لم تفقد جزءا من جودتها بسبب أن ترشيد الإنفاق مع الأسف طال الجوانب التعليمية والبحثية بينما لم يمس الجوانب المساندة والإدارية.
لذا فإن الجامعات بحاجة إلى إعادة ضبط مخصصاتها ومصروفاتها بحيث تكون الأولوية للأبحاث العلمية وليس للجوانب المساندة كرئاسة الأقسام وغيرها. ولا يمكن تحقيق وبناء هذه الأولوية إلا إذا دعمت ميزانيات البحث العلمي وخصصت المبالغ المخصصة للقيام بالأعمال الإدارية كرئاسة الأقسام والكليات إلى ميزانيات لدعم الأبحاث العلمية كحال معظم الجامعات الرائدة.