حكمة «اللا عنف» .. لا يوجد طريق للسلام فالسلام هو الطريق

حكمة «اللا عنف» .. لا يوجد طريق للسلام فالسلام هو الطريق
زهرة السلطة، صورة شهيرة لشاب يواجه الشرطة بالورد في 21 أكتوبر، 1967، عند مدخل البنتاجون.

احتفلت دول المعمورة
2 تشرين الأول (أكتوبر) باليوم الدولي للاعنف، ويصادف هذا التاريخ ميلاد أب الهند المهاتما غاندي، زعيم حركة استقلال هذا البلد عن الاستعمار البريطاني، ورائد المقاومة السلمية واللاعنف بامتياز في العصر الحديث. فالرجل منهج حياته وفق فلسفة اللاعنف (الساتياجرها) وضبط إيقاعها وفق أسلوب السلامية مذكرا نفسه والآخرين بأنه "لا يوجد طريق للسلام، فالسلام هو الطريق".
لكن ما يجهله الكثيرون أن مذهب اللاعنف ليس وليد العصر الحديث في الهند، ولا ضد التمييز العنصري في جنوب إفريقيا أو غيرهما من التجارب التي نقلت هذه الفلسفة النوعية من الأنساق الضيقة المرتبطة بحالات فردية في التاريخ إلى الفضاء الرحب لحركات قومية أو جماعات كبرى. فهذا المذهب متأصل في التاريخ البشري باعتراف غاندي نفسه حين قال: "اللاعنف قديم قدم الجبال".
إن ظهور السلوك العنيف في أغلبية المجتمعات الإنسانية في العالم يدفع البعض إلى التصور بأن العنف جزء موروث من الطبيعة البشرية، لكن آخرين ينظرون إلى الأمر بشكل مختلف، فهناك مثلا من يقول إن النهج العنفي في السلوك البشري هو ظاهرة حديثة نسبيا ظهرت قبل أقل من عشرة آلاف سنة على الأكثر، ولم تكن حاضرة في المجتمعات البشرية إلا بعد توطنها وبنائها المساكن والتجمعات الحضرية.
ويقارن المؤرخ توينبي بين العنف والصيد، مشيرا إلى أن الصيد كان أحد أهم وأكثر أساليب الحياة ارتباطا بالبشر، فهم صيادون واعتمدوا على الصيد طوال ما يزيد على 98 في المائة من تاريخهم، إلا أن الصيد تحول خلال القرون القليلة الماضية إلى هواية ضيقة لا يمارسها سوى عدد قليل جدا من البشر ولم يعد بأي شكل مصدرا يمكن الاعتماد عليه للغذاء البشري. ورغم ارتباطه بالبشر طوال آلاف السنين تبين الآن أن الصيد لم يكن سوى مصدر مؤقت للغذاء البشري. كذلك فإن العنف طريقة مؤقتة لمواجهة المشاكل وحلها ولم تعد صالحة، خصوصا مع التطور الثقافي والعسكري الذي منع الدول الكبرى من التحارب فيما بينها بسبب ترسانتها النووية التي ستؤدي إلى فناء كل الأطراف في حال تم استعمالها.
تاريخيا يصعب تحديد البدايات الأولى لهذه الفلسفة، بالنظر إلى تضارب الروايات التي تقدمها الحفريات بهذا الشأن، بيد أن الأكيد هو عراقة هذا المذهب بدرجة قدم مقولة "النزاع هو الأصل" نفسها. فالتبشير به كان منذ قديم الزمان، ومارسه حكماء في تجارب ذاتية عبر التاريخ من نحو البوذا وبعض الرواقيين والحركات الدينية في مواجهة الخدمة العسكرية الإجبارية مثل الكويكرز ذات الأصول الإنجليزية على يد جورج فوكس، والمنونيين والأميش والمورمون في الولايات المتحدة الأمريكية، والمسيحيون الروس المنشقون في طائفة الدخبور. ما ليس معروفا لدى العرب أن في تاريخهم الكثيرين ممن عاشوا حياتهم وفق هذا المذهب، حتى إن لم يعملوا على الترويج وإشاعة تلك الأفكار بين الناس. ويعد أبو العلاء المعري واحدا ممن لهم قناعات راسخة في فلسفة اللاعنف، وأحد الشعراء الذين يفيح شعرهم بمبادئ وقيم اللاعنف، ومنها قوله: فإن ترشدوا فلا تخضبوا السيف من دم / ولا تلزموا الأميال سير الجرائح.
وتبقى مفاجأة النبش في هذا التاريخ الشعري، هي بيتين فريدين لأبي الطيب المتنبي شاعر الحماسة يستنكر فيهما على الإنسان جنوحه نحو القتال، في قصيدة له بعنوان "صحب الناس قبلنا ذا الزمانا" فيقول: كلما أنبت الزمان قناة / ركب المرء في القناة سنانا، ومراد النفوس أصغر من أن / نتـعادى فيها ونتفانى.
عودا إلى العصر الحديث لنجد فيه الكثير من الأسماء التي أضحت من رموز هذه الفلسفة في الحياة، إن على مستوى التنظير أو الممارسة. فما أكثر الكتاب والمثقفين ممن لهم إسهامات نظرية ومؤلفات عن مذهب اللاعنف، وفي مقدمتهم الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر صاحب كتاب "مبدأ اللاعنف" و"استراتيجية العمل اللاعنفي" ومؤسس الحركة من أجل بديل لاعنفي MAN ومدير الدراسات في "معهد أبحاث حل النزاعات باللاعنف IRNC.
والمؤرخ والكاتب الأمريكي هنري ديڤيد ثورو Henry David Thoreau صاحب مقالة العصيان المدني (1849) التي ألهمت زعماء اللاعنف في الميدان، والفيلسوف والناقد الإنجليزي جون رسكن John Ruskin؛ وعملاق الروائيين الروسي ليو تولستوي Léon Tolstoï صاحب كتاب "مملكة الرب داخلك" (1894).
وعربيا يمكن أن نضم إلى هذه الزمرة من الأعلام غاندي العرب كما يوصف؛ المفكر وابن بئر عجم السورية جودت سعيد صاحب سلسلة كتب بعنوان حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن أهمها كتاب "مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العالم الإسلامي"، "رياح التغيير"، "كن كابن آدم".
ما أكثر أنصار هذا التيار الفكري ممن عاشوا حياتهم وفقه، فالمنهج اللاعنفي ألهم غاندي في الهند لدرجة أقر فيها بأن «الحضارة الإنسانية وصلت إلى درجة لم يعد علينا معها سوى الانتظار بصبر لنراها تقضي على نفسها وتنهار كبيت من الورق المقوى أمام النار». وفي إشارة رمزية منه بدلالات كبيرة قال: «لم أتعلم لعبة الشطرنج لأني لم أحب أن أقتل جيشي وجنودي كي يعيش الملك».
وفي أقصى نقطة من إفريقيا نذكر تجربة محرر جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا Nelson Mandela وباني الدولة الحديثة هناك، أما القارة الأمريكية فنشير في شمالها إلى مارتن لوثر كينج Martin Luther King زعيم حركة الحقوق المدنية هناك، ومالكوم ليتل المعروف بمالكوم إكس Malcolm X وكلاهما راح ضحية عملية اغتيال في ستينيات القرن الماضي. وفي جنوب القارة نذكر أيقونة تاريخ أمريكا اللاتينية، سيزار تشافيز César Estrada البطل القومي للمزارعين الأمريكيين الذي توفي عام 1993 جوعا بسبب إضرابه عن الطعام. وأدولفو پيريز إسكيڤيل Adolfo Pérez Esquivel المعماري والنحات والمناضل اللاعنفي الأرجنتيني، صاحب جائزة نوبل للسلام سنة 1980. ما أحوج إنسانية هذا العصر؛ عصر العنف، وفي هذه المناسبة العالمية بالتحديد، أن تستعيد أفكار المنظرين وسير المناضلين في سبيل إشاعة فلسفة اللاعنف ومذهب السلمية في العيش. خصوصا وأننا في بداية القرن الحادي والعشرين والمؤشرات كلها تتجه نحو تحطيم الأرقام القياسية في الخسائر البشرية والمادية التي نحصدها من جراء النزاعات والعنف في الجهات الأربعة للعالم.
صدقا لقد باتت حياتنا عنفية بامتياز، ومنسوبه في ازدياد مستمر في كافة الأصعدة؛ في الساسية كما في الإعلام، مرورا بالفنون وصولا الرياضة. وباءت مقولة أحد اللاعنفيين تحاصرنا من جانب: «إذا قابلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة؟!".

الأكثر قراءة