هل تستطيع الجامعات أن تعطي أكثر؟

هناك في مسألة التنمية والتقدم ثلاثية مهمة هي: "الحكومة" كموجه وموفر للخدمات الأساسية في المجتمع؛ و"القطاع الخاص" ونشاطاته الخدمية والإنتاجية، في إطار شقيه الربحي وغير الربحي؛ ثم "الجامعات" كمراكز معرفة لتأهيل الناشئة، وتعزيز الإبداع والابتكار، وتفعيل دور المعرفة في المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. وتشهد ساحة الجامعات آراء وحوارات حول توجهاتها ودورها ومهماتها وما يمكن أن تقوم به. ولعل بين أبرز تلك الحوارات ثلاثة منها بدأت مع الانتقال إلى الألفية الثالثة، من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين.
في تلك الفترة أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" إعلانا حول التعليم العالي في القرن الحادي والعشرين عنوانه، "أهمية التعليم العالي للتنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية". وطرح اتحاد الجامعات والكليات الأمريكية مبادرة "التعليم المنفتح من أجل الوعد الأمريكي" للتحضير لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. كما قامت الدول الأوروبية بتوقيع إعلان مشترك لتطوير التعليم في أوروبا وحددت أهدافا وطرحت مشاريع مختلفة لذلك. وقد سمي الإعلان بإعلان "بولونيا" لأنه تم في جامعة بولونيا الإيطالية التي تعد أقدم الجامعات في أوروبا.
كان بين مشاريع التطوير الأوروبية مشروع حول "المهمة الثالثة للتعليم العالي"، عرف "بالرمز E3M". وجاء المشروع انطلاقا من حقيقة أن المهمتين الرئيستين للتعليم العالي هما، "التعليم، والبحث العلمي"؛ وأن النشاطات الأخرى التي تقوم بها الجامعات عدا ذلك محدودة، وغير موجهة أو منظمة كالمهمتين الرئيستين. ويضاف إلى ذلك أن وزن هذه النشاطات في معايير تقييم الجامعات وتصنيفها على المستوى الدولي محدود، أو حتى منعدم في بعضها. وقد تطرقنا إلى هذه التصنيفات في مقالات سابقة.
نشر القائمون على مشروع "المهمة الثالثة" بحثا، عام 2011، في مجلة "مجلس تقييم واعتماد التعليم العالي في تايوان HEEACT"، حول مشروعهم حمل العنوان التالي، "مؤشرات المهمة الثالثة للجامعات من أجل أساليب تصنيف جديدة". وقد حدد البحث المقصود بالمهمة الثالثة، ووضع مؤشرات لتقييم أدائها، كما وثق هذه المؤشرات، من خلال شراكة معرفية مع خبراء، باستخدام طريقة التوثيق المعروفة بطريقة "دلفي Delphi". ولعل نشر البحث في مجلة في تايوان، وليس في أوروبا، جاء نتيجة رغبة الباحثين في تعميم أفكارهم في أماكن أخرى من العالم.
أعطى البحث تعريفا أوليا "للمهمة الثالثة" يقول إنها "الوسيلة التي تمكن الجامعات من النزول من برجها العاجي والعمل على تعزيز تفاعلها مع المجتمع والاستجابة لمتطلباته". وقسم البحث هذه المهمة إلى ثلاث وظائف رئيسة هي: "التعليم المستمر CE، ونقل التقنية والابتكار TTI، والتفاعل مع المجتمع SE". هدف وظيفة التعليم المستمر هو أن تسهم الجامعات في "استمرار التعلم مدى الحياة LLL"؛ وأن تعمل على "الاستجابة للمتطلبات المعرفية" للعاملين في المؤسسات الحكومية، وشركات القطاع الخاص.
أما هدف وظيفة نقل التقنية والابتكار فهو الشراكة مع الجهات الخارجية، بما فيها المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص لتفعيل النشاط البحثي والإبداع والابتكار باتجاه التطبيق العملي والإسهام في التنمية. وبين أهم ما يمكن أن ينتج عن ذلك هو إطلاق "مؤسسات جديدة Spin-Off Companies" تقدم منتجات وخدمات إبداعية متميزة تحمل بذور النجاح، وتسهم في التنمية وتوفير فرص عمل جديدة. وسوف نلقي مزيدا كم الضوء على هذا الأمر في مقال قادم بمشيئة الله.
وتهدف وظيفة التفاعل مع المجتمع إلى توفير المعرفة وتطبيقاتها على نطاق واسع بين الناس، ربما عبر المعارض والنوادي والجمعيات المهنية، خصوصا في المناطق النائية، لاستيعابها وتفعيل نشاطات أبنائها. ويمكن أن يكون ذلك من خلال أعمال تطوعية يقوم بها طلاب الجامعات، وربما منسوبيها أيضا.
ولا شك أن القول "بالتفاعل مع المجتمع" قول واسع النطاق ومتعدد المجالات، ويمكن أن يشمل أمورا كثيرة مثل الإسهام في التخطيط الاستراتيجي والتنفيذي على كل من المستوى الوطني ومستوى المؤسسات والشركات؛ لكن هذا الأمر لم يرد في البحث الأوروبي، على الرغم من وجود أقسام جامعية في هذا المجال في بعض جامعات العالم، مثل "كلية كندي للإدارة الحكومية" في جامعة هارفرد، و"كلية الإدارة الحكومية" في جامعة أكسفورد. ولا تكتفي هاتان الكليتان بالتعليم والبحث العلمي، بل تقدمان استشارات حكومية أيضا.
وضع بحث "المهمة الثالثة الأوروبي E3M" مجموعة من مؤشرات التقييم لكل من الوظائف الثلاث سابقة الذكر. وقد بلغ عدد هذه المؤشرات، "18 للتعليم المستمر؛ و16 لنقل التقنية والابتكار؛ و20 للتفاعل مع المجتمع". وتشترك المؤشرات الثلاثة الأولى لكل من هذه الوظائف بالنظر إلى وجود توجه نحو الوظيفة المعنية ضمن توجهات رؤية الجامعة؛ وفي خطتها الاستراتيجية؛ وكذلك في خطتها المؤسسية التنفيذية.
تشمل أمثلة المؤشرات الخاصة بالتعليم المستمر، "عدد برامج هذا التعليم، ومدى خضوعها لمعايير الجودة، والشراكة بشأنها مع الجهات الحكومية ومؤسسات الأعمال". وتتضمن أمثلة مؤشرات نقل التقنية والابتكار، "عدد المؤسسات الجديدة التي تم إطلاقها، وعدد الاتفاقيات مع الجهات الخارجية سواء لأغراض بحوث تطبيقية أو استشارات، وعدد رسائل الدراسات العليا التي يشارك فيها خبراء من الجهات الحكومية ومؤسسات الأعمال". ثم هناك بين أمثلة مؤشرات التفاعل مع المجتمع، "عدد الأعمال التطوعية، وعدد تلك التي تستهدف الأقل حظا، وعدد العقود الناتجة عن التفاعل مع المجتمع".
لا يمثل ما تقدم كل ما تستطيع الجامعات القيام به، فالنشاطات المعرفية كثيرة، والجامعات مراكز رئيسة للمعرفة تجمع بين أساتذتها كثيرين من خير "خبراء المعرفة"؛ وتجمع بين طلابها عقولا نيرة جديدة "متحفزة للعطاء المعرفي". ثم هناك الحاجة إلى النشاطات المعرفية في كل من الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص التي يجب على الجامعات الاهتمام بها من ناحية، ويجب على هذه الجهات التواصل مع الجامعات بشأنها من ناحية أخرى.
ليس كل ما ورد من نشاطات معرفية فيما سبق جديدا على جامعاتنا، بل هي تخطط بالفعل، وتنفذ أيضا بعضا منها. لكنه لا بد من التأكيد على أن الدور الأول لجامعاتنا، سواء الحكومية أو الخاصة، هو خدمة المجتمع في كل من: مهمة التعليم، ومهمة البحث العلمي، والمهمة الثالثة بوظائفها الثلاث المحددة في المشروع الأوروبي، وربما أكثر من ذلك أيضا. لا شك أن جامعاتنا تستطيع أن تعطي أكثر، وأن يكون لها دور أكبر، بل دور متجدد على الدوام، في تفعيل التنمية اقتصاديا، واجتماعيا، وإنسانيا، مع الشراكة في ذلك مع المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي