أبناؤنا في الجامعات

تطرقت في مقال الأسبوع الماضي إلى حاجة أبنائنا في الجامعات إلى الرقابة المنضبطة من قبل أولياء أمورهم، خصوصا أولئك الذين يضعون أقدامهم لأول مرة في البيئة الجامعية. فنحن نلاحظ أن الآباء يهملون متابعة أبنائهم في الجامعات غير مدركين التباين الشاسع بين بيئة التعليم في المدارس وبيئة التعليم في مؤسسات التعليم العالي. فالاختلاف الشاسع والتباين الكبير بين بيئة التعليم العام وبيئة الجامعات يعد أكبر عائق يواجه الطلاب المبتدئين عند دخولهم الجامعات، وهو السبب الرئيس لإخفاق كثير منهم وتسربهم من التعليم. فالبيئتان مختلفتان في جوانب عدة بدءا من الثقافة التنظيمية فآليات التدريس مرورا بالآليات التشغيلية فالموارد البشرية فالبنية التحتية. كما أن أهداف وأساليب العمل مختلفة والبرامج وطريقة التقييم وتأهيل الأساتذة ونوعية القيادة، كل شيء مختلف.
ولهذا فأبناؤنا في الجامعات يحتاجون بالفعل إلى من يأخذ بيدهم في هذا الضباب الكثيف، حتى لا تضيع بهم الخطى أو تضيق بهم السبل. ورغم أن العمادات والإدارات المعنية بشؤون الطلاب في الجامعات تتحمل جزءا من مسئوولية توعية الطلاب بما ينتظرهم وكيف يتعاملون مع هذا النظام المفتوح على مصراعيه، إلا أن ولي الأمر يتحمل النصيب الأكبر، لأن هناك عوائق تواجه الجامعات في تفعيل الإرشاد الأكاديمي، ليس هذا مكان مناقشتها.
وأريد هنا أن أوضح بعض آليات الرقابة التي ينبغي لولي الأمر أن ينهجها، كي يتتبع أداء وسلوكيات ابنه في المراحل المبكرة من الحياة الجامعية. عليه قبل كل شيء أن يشعر ابنه أنه ما زال تحت الرعاية، وأن تحركاته في الجامعة تحت المجهر، فقد لاحظنا أن بعض أولياء الأمور يراقبون أبناءهم عن بعد، بل إن بعضا منهم يخشى أن يعرف ابنه أنه يتابع انضباطه وأداءه. وأنا لا أدري لماذا بعض أولياء الأمور يفعل هذا؟ عليه أن يكون واضحا في هذا الجانب ولو اضطر إلى التصريح لأبنه بأنه يتعهد الجامعة بزيارات دورية. تصرف كهذا يحمي الابن من أي تصرفات حمقاء قد يدفع ثمنها باهظا فيما بعد.
يتعين على ولي الأمر الحضور الدوري مرة كل شهر على الأقل إلى القسم الذي ينتظم فيه ابنه، والاستفسار عن حالته من رئيس القسم العلمي ومن الأساتذة. ونحن نقدر لكل أب صنيعه، ونبذل الكثير في مساعدة الطالب على تجاوز أي عقبات، إذا تيقنا أن هناك جدية من قبله، فكيف إذا رأينا اهتمام ولى أمره؟ فالإشراف الدوري من قبل ولي الأمر يساعد كثيرا على اكتشاف المشكلات في بداياتها فتسهل معالجتها وفقا للوائح وزارة التعليم واللوائح التفصيلية للجامعات التي تتصف بالمرونة العالية.
المعضلة الكبرى التي تعد لها الأقسام العلمية العدة كل فصل دراسي تتمثل في الغياب المتعمد من الطلاب لفترات طويلة "عدة أسابيع بل وأشهر أحيانا"، وفي نهاية الفصل الدراسي يأتون إلينا محملين بتقارير طبية أو خطابات من إدارة المرور فيها كثير من التلفيق وقلة المصداقية، رغم أنها تذيل بختم الطبيب المعالج ومدير المستشفى، وتتم مصادقة كل هذا من الشؤون الصحية. وبعد أن تمرر هذه التقارير بما فيها من شبهات على القسم العلمي يشعر الطالب بالظفر وأنه استطاع أن يستغل ثغرة في لوائح الجامعة تمكنه من دخول الاختبار النهائي بدون أدنى مجهود، فالأمر في غاية السهولة، تقارير طبية من أحد المعارف في أحد المستشفيات التابعة لوزارة الصحة يقدمها قبيل الاختبارات تفيد بأنه تعرض لوعكة صحية ألزمته السرير الأبيض، أو تقرير من إحدى إدارات المرور يفيد بأن الطالب وقع عليه حادث مروري، وبذا يصبح الغياب عادة عند الطالب ينتهجها كل فصل دراسي، وتتوارث الأجيال هذا السلوك المشين. وسيبقى الوضع كذلك لأن لوائح الجامعات تسهل للطالب عدم الانضباط، والجهات المعنية خارج الجامعة - خصوصا وزارة الصحة وإدارات المرور - تتعاطف كثيرا في هذا الجانب، فتمنح الطلاب تقارير مريبة ويسهل الطعن فيها ولكن لا يمكن رفضها من مجالس الأقسام العلمية، لأنها صادرة من جهات رسمية.
ويظل الطالب على هذا النهج يحضر أسبوعا ويتغيب أسابيع حتى تأتي الطامة فينخفض معدله التراكمي نتيجة دخوله عدة اختبارات بدون حصيلة علمية، لكن التقارير الطبية مكنته من دخول الاختبارات، فينخفض معدله التراكمي، عندها يدخل في الاستثناءات النظامية من مجلس الجامعة، وبدلا من أن يتخرج في المدة المقررة يتعثر كثيرا حتى يتخرج وقد دفع الثمن مضاعفا أو قد لا يتخرج البتة، وتضيع أجمل سنوات عمره من بين يديه ومن خلفه.
وقد كان من الممكن تفادي كل هذا لو أن ولي الأمر تتبع خطوات ابنه وتواصل مع الأقسام العلمية مبكرا للتعرف على حالته، ومنع ابنه من انتهاج الطرق المشبوهة التي لا يمكن القضاء عليها من قبل المؤسسات الأكاديمية، لأنها استغلال قانوني للوائح والأنظمة، ولا يوجد حل لكل هذا إلا بتغيير لوائح الجامعات بما يتناسب وعصرنا الحالي. نعم هناك إشراف أكاديمي على الطلاب في الجامعات، لكن تقابله أعداد هائلة من الطلاب، كما أن الإشراف الأكاديمي يركز على حالات الطلاب المستعصية، بمعنى ليس علاجا وقائيا.
والبعض قد يتساءل - وله الحق في ذلك - فيرى أن دور ولي الأمر قد انتهى بافتراض أن الطالب عند دخوله الجامعة دخل مرحلة النضج، وأنه تعدى مرحلة السفه والتهور والصبيانية. ونحن نقول إن الأجيال قد اختلفت، فلم يعد طالب اليوم يحمل صفات وخصائص طالب الأمس، فالبعض منهم يتصفون بالسذاجة عندما يسيئون فهم المرونة التي تمنحها لهم الجامعات فيرتكبون حماقات قد تضر بهم كثيرا في نهاية المطاف. ولا نريد أن نحملهم تبعات كل هذا، فقد نكون نحن كآباء سببا في تأخر هذا الوعي، أو قد تكون أنظمة التعليم العام لها دور فيما وصلوا إليه، أو قد يكون العصر قد تغير، وأنظمة الجامعات بقيت كما هي.
وهناك قصص كثيرة محزنة ومروعة نراها كل فصل دراسي، تحكي الواقع التعيس الذي يعيشه أبناؤنا في الجامعات، ولولا سرية وخصوصية كثير منها لما ترددت في سرد بعض منها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي