رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ساعات العمل .. و«التوازن النفسي»

التقيت رجلا تقاعد إراديا ودون ضغوط وهو في منتصف الخمسينيات من وظيفة ومنصب عال في إحدى شركات النفط وخسر نتيجة لذلك الوجاهة الاجتماعية ومبلغا كبيرا شهريا ومميزات أخرى. ولقد رأيت الرجل في قمة السعادة ويحمد الله أنه اتخذ هذا القرار وهو في صحته قبل أن تتراكم عليه أمراض الشيخوخة ووهنها.
سألته ما دفعك لذلك فقال سقطت مغشيا بسبب الإرهاق والتعب الذهني والجسدي نتيجة ضغوط العمل ومتطلباته ونقلت إلى المستشفى وتنومت لعدة أيام وعند خروجي قررت التقاعد والتفرغ لأسرتي وحياتي الخاصة وممارسة هواياتي وتحقيق شيء من التوازن النفسي الذي افتقدته لأكثر من 30 سنة عملا مضت أقضي فيها نصف يوم في العمل والتنقل منه وإليه وأعود منه مرهقا دون أي رغبة في التواصل مع أي كان حتى زوجتي وأبنائي إلا فيما ندر.
ويضيف أفهم أنني يجب أن أوازن بين محاور حياتي العملية والمالية والاجتماعية والصحية والروحية وأن أي خلل في أي منها خصوصا في الجانب الصحي أو الاجتماعي سيكلفني كثيرا في حياتي الدنيا وإن كانت الجوانب العملية والمالية على أحسن ما يرام، وأن تقصيري في واجباتي الروحانية تجاه خالقي قد يكلفني خسارة الحياة الآخرة وبالتالي تجب الموازنة، إلا أنه ونتيجة ساعات العمل الطويلة ملت كل الميل ولزاما لجانب العمل وما يترتب عليه من إيرادات مالية ما أفقدني حياتي الاجتماعية مع زوجتي وأبنائي وأقربائي وهذه ذات تكلفة عالية متى ما ضاع الأبناء نتيجة لضعف التربية والمتابعة، وكذلك خسرت كثيرا من صحتي خصوصا في الجانب النفسي الذي يتحول شيئا فشيئا إلى أمراض جسدية. ولذلك كان قرار التقاعد أكثر من ضروري لأعيد التوازن لحياتي وأغتنم ما تبقى من العمر وخصوصا أن المال أصبح متوافرا ومردود التقاعد يكفي لبقية العمر.
تجربة هذا الرجل والظروف التي مر بها هي تجربة معظمنا خصوصا من يعمل في القطاع الخاص، وكثير من أبنائنا وبناتنا يمضون أكثر من عشر ساعات كحد أدنى في أعمالهم وتنقلهم من وإلى العمل ما جعلهم في حالة من عدم التوازن النفسي وولد كثيرا من المشكلات الاجتماعية والصحية وجعل كثيرا منهم في حالة من الخواء الروحي الذي يسهم في السكينة النفسية ويعزز قيم الأخلاق والمسؤولية والقدرة على مواجهة المصاعب والتحديات، ولقد بدأت الدول الرأسمالية التي قررت ساعات العمل الطويلة تراجع حساباتها وتدرس إمكانية تقليصها مع المحافظة على الإنتاجية نفسها.
نعم فقد بدأنا نسمع عن دراسات تقول إن عدد ساعات العمل لا يعتبر مقياسا لحجم الإنجازات والإبداع وإن الدراسات والتجارب دلت على أن ساعات العمل القصيرة حسنت من الإنتاجية، خاصة في مهنة التمريض والمجال الطبي، فضلا عن الوظائف المكتبية، كما أن زيادة الإنتاجية تقلل من تكلفة توظيف عمال إضافيين بالنسبة لأرباب العمل. ومن ذلك دراسة أجريت في السويد دلت على أن العاملين يكونون أسعد حالا وأكثر إنتاجا إذا عملوا لمدة ست ساعات فقط في اليوم.
ولقد أكد الباحثون في هذه الدراسة أن العمل لمدة ثماني ساعات يجعل الموظفين يواجهون صعوبة في التحكم في حياتهم الخاصة خارج محيط العمل ولا يجدون الوقت الكافي لإنفاقه مع أفراد أسرهم أو ممارسة التمارين الرياضية التي تعزز حالتهم الصحية، كما أنه يجعل الموظفين أقل تركيزا بخلاف العمل لمدة ست ساعات يوميا حيث من السهل التركيز أكثر على العمل الذي يجب إنجازه مع توافر الطاقة والقدرة على أدائه مع تبقي قدر من الطاقة والوقت عند مغادرة العمل للتواصل مع أفراد العائلة أو إحضار الأبناء من المدارس وقضاء بعض الوقت في ممارسة الرياضة أو الاستمتاع بأداء بعض الأعمال في البيت.
أيضا أثبتت الدراسات أن لساعات العمل الطويلة والإضافية مخاطر صحية حيث ترفع ضغوط العمل والإرهاق من فرص الإصابة بأمراض القلب والسكر والضغط والسرطان وآلام المفاصل خصوصا بالنسبة للنساء اللواتي يعانين بشكل كبير من عدم القدرة على الموازنة بين عملهن والالتزامات العائلية، الأمر الذي يجعلهن عرضة لمزيد من الضغط والتوتر.
أحد بدائل العمل لمدة ثماني ساعات مع الحفاظ على الإنتاجية والصحة والمزاج العالي للموظفين ما يسمى ساعات العمل المرنة، وهي جدول زمني متغير للعمل بديل ليوم العمل القياسي الذي يمتد من الساعة التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء حيث تكون هناك مدة رئيسة (تبلغ نحو نصف إجمالي وقت/يوم العمل) يكون من المتوقع فيها من الموظفين العمل على سبيل المثال، من الساعة الـ 11 صباحا حتى الثالثة مساء، في حين تدخل باقي مدة اليوم في إطار "ساعات العمل المرنة" التي يختار فيها الموظفون وقت عملهم، شريطة الوصول إلى إجمالي عدد الساعات اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية المطلوبة في المنطقة التي يتوقعها صاحب العمل، وتنفيذ جميع مهام العمل.
وفي عام 2003، قدمت حكومة المملكة المتحدة تشريعا بمنح الموظفين، الذين لديهم أبناء تقل أعمارهم عن ستة أعوام، أو من لديهم أبناء معوقون تحت سن الـ 18 عاما، الحق القانوني في طلب العمل وفق نظام الساعات المرنة من صاحب العمل، حيث بلغت نسبة الرجال، الذين يعملون بنظام ساعات العمل المرنة 17.7 في المائة، في حين بلغت نسبة السيدات 26.7 في المائة، وبدءا من عام 2007، صار حق طلب العمل بنظام الساعات المرنة يسري أيضا على الموظفين الذين يتولون رعاية أفراد بالغين.
ختاما التوازن النفسي في حياة الأفراد غاية في الأهمية وذو أثر بالغ في صحة الفرد والمجتمع وجودة المخرجات التربوية وجودة الحياة وإذا كان ذلك مهما في الدول الغربية الأقل التزامات اجتماعية فهو بالنسبة لنا أهم بكثير، وتقليل ساعات العمل مع رفع الإنتاجية حل مطلوب على أن تطبق منظومة عمل سليمة وصارمة لتحقيق الإنتاجية المطلوبة مع خفض ساعات العمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي