منظمة الأمم ليست معطلة.. ولكنها في ورطة
مع تحول النظام الدولي القائم إلى كيان أكثر تفتتا، تصبح مؤسسات الحوكمة العالمية القوية عنصرا بالغ الأهمية في التصدي للتحديات الاستراتيجية والاقتصادية وتلك التي ترتبط بالاستدامة في مختلف أنحاء العالم. ومع هذا فإن مؤسساتنا الحالية ــ بما في ذلك الأمم المتحدة في المقام الأول ــ نادرا ما كانت بهذا القدر من الضعف والعجز في تاريخها.
وبحسب كيفين رود رئيس وزراء أستراليا الأسبق فإن الواقع يؤكد أن الأمم المتحدة ليست معطلة، ولكنها في ورطة، خاصة مع تعامل مزيد من الدول معها بوصفها مؤسسة دبلوماسية مهذبة تتحرك بعد فوات الأوان واضطرارها إلى البحث عن حلول للمشاكل العالمية الكبرى في أماكن أخرى. وقد رأينا هذا في قضايا تراوح من سورية إلى إيران، وكوريا الشمالية، والإرهاب، والأمن السيبراني، وطالبي اللجوء، واللاجئين، والهجرة، والإيبولا، والأزمة الناشئة في تمويل المساعدات الإنسانية.
ورغم أن الأمم المتحدة لا تزال تمتلك كثيرا من مواطن القوة، برأي "رود" الوزير ومؤلف كتاب "الأمم المتحدة 2030 .. إعادة البناء في عالم مضطرب" إلا أنها تعاني أيضا نقاط ضعف بنيوية واضحة، كما يتزايد اتساع الفجوة بين ما تطمح إلى القيام به وما يمكنها القيام به فعليا. ولكن العالم يحتاج إلى الأمم المتحدة التي لا تكتفي بالتداول بشأن السياسة، بل وأيضا القادرة على الإنجاز على الأرض.
إن الأمم المتحدة مؤسسة بالغة الأهمية. فهي مكون متأصل بعمق في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا تراجعت أهميتها ــ إذا تحولت ببطء إلى "مجرد منظمة أخرى غير حكومية" ــ فسوف تغير الدول افتراضاتها الأساسية حول كيفية التعامل في ما بينها في المستقبل. وبهذا تعود الأحادية وشريعة الغاب ــ السمة المميزة لماض صار بعيدا الآن ــ إلى العلاقات الدولية.
لقد أثبتت الأمم المتحدة أنها قادرة على إعادة اختراع نفسها، ولكنها الآن مضطرة إلى القيام بهذا بدافع الضرورة وليس الملاءمة. فيتعين عليها أن تسارع إلى إعادة تصميم وظائفها، وبنيتها، وآليات تمويلها من أجل تعظيم إنجاز النتائج القابلة للقياس في كل المجالات الواقعة ضمن اختصاصها، من السلام والأمن إلى التنمية المستدامة، وحقوق الإنسان، والتدخلات الإنسانية.
وبشكل خاص، يتعين على الأمين العام المقبل للأمم المتحدة أن ينظر في اتخاذ خطوات أساسية عديدة. فبادئ ذي بدء، ينبغي له (أو لها) أن يعقد اجتماعا على مستوى القمة ــ كتكملة لمؤتمر سان فرانسيسكو في عام 1945، الذي شهد موافقة المندوبين على الميثاق المؤسِّس للأمم المتحدة ــ حيث تعيد الدول الأعضاء التأكيد على التزامها بالتعددية كمبدأ أساسي. ولابد أن يسلط تصميم القمة الضوء على المزايا المهمة المترتبة على التعاون وأن يدحض وجهة النظر الناشئة التي توحي بأن التعددية ببساطة عبء يتحمله من يطلبه.
وعلاوة على ذلك، ينبغي للأمين العام الجديد أن يؤكد الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة في بناء الجسور بين القوى العظمى، وخاصة في أوقات التوتر، والدور الذي تلعبه القوى العظمى في تمكين الأمم المتحدة من تحقيق الفائدة للمجتمع الدولي بأسره.
ثالثا، يتعين على الأمين العام أن يستخدم المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة. وهذا يعني تقديم مبادرات جديدة لمعالجة تحديات القيادة العالمية، حتى عندما تفشل مبادرة قائمة. وهذا يعني التأسيس لعقيدة شاملة للوقاية، عقيدة تؤكد تخطيط السياسات القوي الطويل الأمد حتى يتسنى للمنظمة أن تمنع أزمات المستقبل، أو تستعد لها على الأقل، بدلا من مجرد التفاعل مع المواقف كلما نشأت.
وينبغي لهذه الأجندة أن تتضمن على وجه التحديد مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف؛ وتعزيز الأمن السيبراني؛ والحد من انتشار أنظمة الأسلحة التلقائية الفتاكة؛ وتطبيق القانون الإنساني الدولي في سياق الحروب (وهي أولوية مطلقة)؛ وتطوير نهج شامل في التعامل مع الحدود الكوكبية والبصمة البيئية البشرية، وخاصة في المحيطات.
يتعين على القيادة الجديدة أيضا أن تطرح عمليات فعّالة والآلية التنظيمية اللازمة لتنفيذ المبادرات الرئيسية الحالية، بما في ذلك أهداف التنمية المستدامة. والفشل في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ــ التي تتألف من 17 هدفا رئيسيا فضلا عن 169 هدفا محددا ــ يعني التشكيك في سبب وجود الأمم المتحدة ذاته.
يستلزم تجنب مثل هذه النتيجة إبرام اتفاق عالمي جديد بين الأمم المتحدة، وبنوك التنمية العالمية والإقليمية، ومصادر التمويل الخاصة لتمويل جهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وينطبق الأمر نفسه على تنفيذ اتفاق باريس للمناخ لعام 2015، الذي يتطلب استثمارات كبيرة في كفاءة الطاقة ومصادر الطاقة المتجددة لمنع درجات الحرارة العالمية من الارتفاع بأكثر من درجتين مئويتين.
ولابد أن تكون أجندات الأمم المتحدة المتعددة ــ السلام والأمن، والتنمية المستدامة، وحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية ــ متكاملة بنيويا في سلسلة استراتيجية متصلة واحدة، بدلا من الصوامع المؤسسية الجامدة القائمة بذاتها. ومن الممكن نشر مجموعات من "فرق الأمم المتحدة" المتعددة التخصصات في الميدان لكسر الحواجز الإدارية ومواجهة التحديات كل بما يتناسب مع مهمته. وسوف تعمل هذه المجموعات بموجب تفويض مشترك عبر كل هيئات الأمم المتحدة، ويتولى قيادتها مديرو عمليات الأمم المتحدة في كل دولة.
وينبغي أن تكون الخطوة الخامسة إدماج المرأة بشكل كامل وعلى قدم المساواة مع الرجل في جميع أقسام أجندة الأمم المتحدة، وليس فقط في مناطق منفصلة تتعلق بقضايا "المرأة". والفشل في القيام بهذا من شأنه أن يقوض السلام، والأمن، والتنمية، وحقوق الإنسان، والاقتصاد العالمي المتعثر بالفعل. فوفقا لتقرير ماكينزي في عام 2015، من الممكن أن يضيف تحسين المساواة بين الجنسين في مختلف أنحاء العالم نحو 12 تريليون دولار أمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2025.
على نحو مماثل، ينبغي إدماج الشباب بشكل أفضل في عملية اتخاذ القرار في الأمم المتحدة ــ ليس على سبيل المجاملة الأبوية، بل على النحو الذي يمكنهم من المساعدة على صياغة مستقبلهم. يمثل الشباب العالمي (تحت سن 25 عاما) نحو 42 من سكان العالم، وأعدادهم في تزايد، ونحن في احتياج بشكل خاص إلى سياسات جديدة لمعالجة البطالة بين الشباب، نظرا لفشل السياسات الحالية.
وبشكل أكثر عموما، لابد أن تتغير ثقافة الأمم المتحدة ــ ربما بالاستعانة بهيكل جديد للحوافز ــ لإعطاء الأولوية للعمليات في الميدان، وليس العمليات في المقرات؛ وتنفيذ توصيات التقارير بدلا من كتابة مزيد من التقارير؛ وقياس النتائج على الأرض، وليس الاكتفاء بإحصاء عدد المؤتمرات التي تعقدها الأمم المتحدة.
وأخيرا، يضيف كيفين ود الباحث السياسي ورئيس وزراء أستراليا الأسبق، يتعين على الأمين العام المقبل أن يفكر عمليا، انطلاقا من إدراكه لحقيقة مفادها أن قدرة الأمم المتحدة على العمل بكفاءة ومرونة سوف تصطدم دوما بقيود تتعلق بالميزانية. وليس من المنطقي أبدا أن نأمل أن تنفتح السماوات المالية من جديد ذات يوم بطريقة سحرية. فلن يحدث هذا.
بالنظر إلى ما هو أبعد من هذه البنود المحددة، يلوح في أفق مستقبل الأمم المتحدة سؤالان أساسيان. في ضوء عجز الحوكمة العالمية في القرن الحادي والعشرين، هل تتمكن هيئات التداول التابعة للأمم المتحدة من التدخل واتخاذ القرارات الكبرى التي تتناسب مع الوضع؟ وهل تستطيع الآلية المؤسسية للأمم المتحدة ذاتها أن تنفذ السياسات بفعالية بمجرد البت فيها؟
بالاستعانة بالقدر الكافي من الإرادة السياسية، والزعامة القوية، وبرنامج إصلاحي واضح تدفعه أهداف ملموسة، تستطيع الأمم المتحدة أن تظل ركيزة لنظام عالمي مستقر وعادل ومستدام. والبديل هو الإهمال، والتآكل المؤسسي، والعجز في مواجهة التحديات الكبرى في عصرنا، وهذا من شأنه أن يُفضي إلى عالم غير مستقر على نحو متزايد لنا جميعا.