الأمم المتحدة.. نصف قرن والعالم يحلم بيوم بلا حرب
قطعت الدول المؤسسة للأمم المتحدة؛ صيف عام 1945، على نفسها عهدا بأن تسعى لجعل العالم مكانا أفضل، ونقصد تحديدا؛ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين والاتحاد السوفياتي التي التقت وفودها في شهر آب (أغسطس) عام 1944 في ضاحية دومبارتن أوكس في واشنطن لوضع برنامج العمل الأساسي للمنظمة الدولية الجديدة.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) باتت مسودة ميثاق المنظمة جاهزة، وما إن استسلمت ألمانيا في نيسان (أبريل) من العالم الموالي حتى وُقع الميثاق في مدينة سان فرانسيسكو بتاريخ 26 حزيران (يونيو) 1945، وفي الرابع والعشرين من الشهر العاشر من نفس السنة ظهرت الأمم المتحدة رسميا.
تتشكل هيئة الأمم المتحدة من ستة أجهزة رئيسية هي: الجمعية العامة التي تقع بمنزلة البرلمان فيها، ومجلس الأمن الذي يقدَّم كلجنة تنفيذية، فالأمانة العامة أي الهيئة التشغيلية أو الديوان الذي يدير الهيئة، ويضم تسعة آلاف موظف مدني في بقاع العالم، ثم المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومحكمة العدل الدولية، وأخيرا مجلس الوصاية، إلى جانب عدد من الوكالات الخاصة والبرامج والهيئات، التي كان البعض منها أسبق تاريخيا من حيث التأسيس على الهيئة.
ستة عقود تمضي إذن على تأسيس برلمان البشر أو عائلة الأمم التي تحرس السلم والأمن الدوليين، وترعى حقوق الإنسان، وتحمي القانون الدولي، وتسهر على وضع خطط وبرامج التقدم الاقتصادي والاجتماعي. حقبة زمنية انتقل فيها أعضاء العائلة الأممية من 51 دولة إلى ما يقرب من مائتي عضو حاليا، وأضحى الانتماء إليها، ونيل عضوية المحفل الأممي من رموز السيادة القومية.
قصور أم عجز
منذ تأسيسها ولعنة الأسئلة تلاحقها، فتيار واقعي يسائِلها؛ وهو محق في ذلك، عن الأهداف التي استطاعت الأمم المتحدة تحقيقها بعد انصرام هذه المدة الزمنية؟ وأين وصل الأمن والأمان والسلم والاستقرار كمهام مُثلى أنشئت الهيئة من أجل تحقيقها؟ وآخر تشاؤمي لا يرى المنظمة إلا مجرد جهاز بيروقراطي، يعج بموظفين شغلهم الشاغل عقد المؤتمرات في مدن جميلة على مبعدة من مناطق الاضطرابات والنزاع. وثالث تآمُري مقتنع أشد الاقتناع بأن الأمم المتحدة تطمح للتَّحول إلى حكومة عالمية، إذ بفرض سيطرتها تضمحل سلطات وصلاحيات الدولة القومية تدريجيا. وتيار رابع مثالي يرى أن الزمن عفى عليها، ولم يعد هناك من لزوم لها، فطيلة نصف قرن وزيادة والعالم لا يزال يحلم بيوم وحيد بلا حرب.
لكل هؤلاء وغيرهم لن نجد أفضل من قوله هنري لودج سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، عندما علق على نقاش من هذا الصنف «إن هذه المنظمة نشأت لتمنعك من الذهاب إلى الجحيم، لا لتأخذك إلى الجنة».
نعم، فالمنظمة بعيدة كل البعد عن تلخيص كوكبنا من ويلات الحروب أو لنقل أنها عاجزة عن منع نشوب سلسلة من الصراعات الإقليمية أو وقفها. لكنها في المقابل لعبت دورا إيجابيا في منع اندلاع حرب عالمية، وأنقذت البشرية من خرابها.
باختصار، نقول إن دائرة الاقتناع اليوم تزداد بالرأي الذي يقول إن الأمم المتحدة تساعد ملايين الأشخاص في العالم على عيش حياة أفضل أو – في حالات عديدة – البقاء وحسب على قيد الحياة.
قيود أم انحياز
تشاركت الأمم المتحدة في سمة مهمة مع سابقتها عصبة الأمم، فهي ومنذ تأسيسها، كانت "منظمة للمنتصرين"، فلم يُمنح خصوم الحرب الكبار وحلفاؤهم ومناصروهم العضوية فيها إلا في وقت لاحق.
وخوفا من تكرار مشهد انسحاب اليابان من العصبة في ثلاثينيات القرن الماضي، مَنحت هذه الهيئة حق الفيتو بغرض تحفيز الدول الخمس الكبرى وضمان بقائها جزءا منها. بيد أنها أمدتها بوسيلة لتحييد هذه المنظمة العالمية.
فحقيقة تتمتع خمس دول فقط من إجمالي الدول الأعضاء بمكانة مميزة يبدو ضربا من السخف؛ لأن الأمر وببساطة، يعني أنه متى استطاع هذا الخماسي الاتفاق على ذات الموقف صار بإمكان الأمم المتحدة العمل. وعندما يحدث العكس، أي لو رأت دولة واحدة فقط أن قرارا بعينه غير مرغوب فيه، يصاب مجلس الأمن فعليا بالشلل.
وعن حق الفيتو هذا انفجر في اجتماع لمجلس الأمن وزير الخارجية الباكستاني ذو الفقار علي بوتو قائلا: "لِنبْن نصبا لحق النقض.. لنَبنِ نصبا للعجز والضعف".
كل ذلك يعني أن الأمين العام والأمانة العامة، الذي يفترض بهما في الأحوال المثالية الاستقلال عن التحيزات القومية والسمو فوق السياسة، لا يمكنهما العمل إجمالا دون دعم الدول القومية الأعضاء، وعلى رأسها الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
وقد أكد ذلك مبكرا النرويجي تريجفي لي وهو يوَّرِث السويدي داج همرشولد عام 1953 منصب الأمين العام بقوله: «مرحبا بك في أصعب وظيفة على وجه الأرض».
وكانت لهذا الحق المبالغ فيه تبعات جمة على مسار عمل المنظمة، إذ مر التدخل العسكري الفرنسي في الهند الصينية والجزائر أواخر الخمسينيات دون تدخل من جانب المجلس. ثم جاء دور التدخل العسكري الأمريكي في فيتنام والدول المجاورة الذي كان محل إدانة عالمية، لكن لم يصدر أي قرار من مجلس الأمن يدعو لسحب القوات الأمريكية. بعدها بعقد من الزمان غزا السوفيات أفغانستان ما خلف ضجة عالمية، وكان بلا قرار للأمم المتحدة. وكانت صراعات دموية أخرى – في أنجولا والقرن الإفريقي وكمبوديا - محل تجاهل فعلي من جانب مجلس الأمن؛ لأنها كانت تمس مصالح دولة أو أكثر من الدول الخمس.
مشاكل بلا إصلاح
منذ تأسيس الأمم المتحدة كان الإصلاح الكبير الوحيد هو زيادة عدد الأعضاء غير الدائمين، فيما ظلت بقية المشاكل بلا إصلاح أو حتى مشاريع حقيقية لبلورة رؤى إصلاحية بخصوصها.
فقد كانت ولا تزال الأمم المتحدة، تعاني كمراقب للأمن الدولي فيما يخص تدبير الصراعات؛ سواء بين الدول أو داخل الدولة نفسها، دون المساس بالسيادة القومية للدول الأعضاء فيها، إذ تظل سلطة الدولة القومية من العوامل المعرقلة لدور المنظمة في الأمن الدولي، فليس من حق المفوضة السامية أو مجلس الأمن توجيه الأوامر للدول ذات السيادة.
لكن تظل أقوى قضيتين إشكاليتين متشابكتين في إصلاح الأمم المتحدة هما: حق النقض، والعضوية. وإن كانت قد تصاعدت - ومنذ التسعينيات - وتيرة الحديث عن فكرة التخلي عن حق النقض، ومضاعفة عدد الدول الأعضاء في مجلس الأمن. فبهذه الطريقة من منظور دول كألمانيا واليايان والهند والبرازيل سيكون مجلس الأمن أكثر إظهارا لميزان القوى العالمي المتغير.
ناهيك عن حقيقة أخرى غير مريحة تتعلق باعتماد المنظمة على مساهمات الدول الأعضاء؛ خاصة الولايات المتحدة، ما يعطي أولا "كبار الدافعين" الذين هم أعضاء دائمون في مجلس الأمن سيطرة نافذة قادرة على إعاقة الأمم المتحدة عن العمل من الأساس، ويجعل ثانيا الدول النامية المحتاجة إلى المساعدات الأممية لمساعدة مرتبطة على نحو غير مباشر؛ من خلال سلسلة اعتماد، برضا الدول الأكثر تقدما عنها.
ختاما نذكِر بمقولة لداعية السلام العالمي نورمان كازينز، نراها مدخلا أساسيا لمستقبل أفضل لهذه المنظمة تفيد بأنه، «إذا أردنا للأمم المتحدة البقاء، فعلى من يمثلونها أن يدعموها، وعلى من يناصرونها أن يخضعوا لها، وعلى من يؤمنون بها أن يقاتلوا من أجلها».