وسط كل هذا هل يحق لنا الفرح؟

.. كان إبراهيم الحلبي يتراسل معي منذ أكثر من عشر سنوات قبل بدء الحرب الأهلية السورية. وقتها كان إبراهيم ما زال في الجامعة، وكانت مدينته حماه مكانا لفش الغضب من حكام دمشق.. وكانت حماه تعتبر في حالة كارثية وقتها، ولم نكن لنعلم أن قصص القتل والسحل والتفجير في حماه ستكون يوما كشكة الإبرة مقارنة بما يحدث الآن من أهوال لم أقرأ في التاريخ شيئا مشابها ولا مقاربا لها، ليكون قاتلو السوريين المسالمين المدنيين أكبر سفاحي التاريخ على الإطلاق.. ولا فخر.
انقطع إبراهيم عني لسنوات، والسبب أنه كان يراسلني على بريد يظهر تحت مقالاتي تلك السنين، والبريد ذاك عفى واندثر، فلم يعرف إبراهيم لي سبيلا للتواصل. ويوم كانت رسائل إبراهيم وهو في الـ 22 تصلني، كنت أحيانا أنشرها كاملة، أو أنشر بعضها، حتى أن قرائي ورئيس التحرير يسألونني متى ستنشر شيئا لإبراهيم. كانت رسائل إبراهيم طافحة بالتفاؤل والفرح، وكان يصف حزنه عبر طريقة فريدة، أسميها "مطاردة فرح الأحزان"، وكتبت قصة إبراهيم لجريدة بالإنجليزية تحت هذا العنوان، وطلبوا مني الاستطراد لتكون قصة فيما بعد.. إلا أني كعادتي السلبية امتنعت بعد حلقات، كما فعلت من قبل برواية ملحمية بدأتها في جريدة عكاظ تحت عنوان "صندوق الهند"، ما زالت قابعة تنتظر الظهور منذ أكثر من عقد من الزمان.
إبراهيم الحلبي أرسل هذه المرة رسالة على غير ما عرفته عنه، غابت عنه تلك الطرائد الفرحة التي يقتنصها في غابات الأحزان، حروفه تقطر سوادا، واختفت المعاني الوسيمة التي كانت تتأنق على سطوره. ولاحظت أن براعته الأسلوبية التي يشتهر بها أدباء الشام غاضت كما يغيض الورد في حقل جف وخنقته الرمال. إبراهيم كتب لي هذه المرة واصفا رحلته مع عائلته وقد تزوج وصار لديه ابنتان صغيرتان من الحدود التركية إلى مقدونيا حيث أقام لفترة، ثم استقر الآن حسب وصفه: "ببلد الثلج والبرود والانتفاء من الوجود الدافئ السويد، بمخيم في ضاحية تبعد عن استكهولم بـ 50 ميلا"..
المهم أن إبراهيم سأل سؤالا وكأنه يقرظ ضميره بأسنانه: "عندما وصلنا الحدود النمساوية استقبلنا بشرا أحياء بعد أن كنا أكفانا تسير على الأرض تنتظر مشعاب الموت لينغرز في لحم صغيرتي وزوجتي ولحمي، وظهرنا للحياة وتعرفنا على أننا جنس بشري، فاحتفلنا بفرح معجون بشهقة الحياة التي تصل للغريق في آخر لحظة.. فهل يحق لنا الفرح وأنا أعرف أن باقي السوريين مثلي ما زالوا تحت أبواب جهنم التي تنفتح من سماء السعير، ومن إخوتي الذين يأكل لحمهم سمك قيعان البحر المتوسط؟"
كنت أفكر في سؤال الأخ إبراهيم الحلبي وأنا أتابع نشرة أخبار، وإذا بطفل سوري ينقذ من تحت الركام بنظارته وقد امتلأت بغبار الركام، وبطفل آخر يعرفه يضمه فرحا، ثم يضع يديه فوق رأسه ويصرخ ويدور فرحا ومضطربا ومذهولا بنجاة حبيبه. مع كل خوفي ورحمتي لذلك الطفل الذي أنقذت حياته، إلا أن عواطفي أيضا ذهبت للطفل الآخر الذي صار يدور كالدوامة المترنحة يخبط يديه على خديه ورأسه فرحا لأمل كان قد مات وفجأة رآه حيا ماثلا أمامه.
نعم يا إبراهيم، نفرح وسط الآلام عندما يكون وميض الفرح لائحا.. لتستمر الحياة، وحين تستمر الحياة يوما ما يا إبراهيم قد يكون قريبا أو بعيدا ولكنه لا بد آت، ستكون كفيلة بإطفاء نيران الأحزان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي