حتمية التقنين لحماية الاقتصاد من مزاجية التحليل والتحريم
تشعبت الأمور في السنوات الأخيرة في موضوع المصرفية الإسلامية ما بين مؤيد لها ومعارض لكل ما جاءت به وما بين آراء مختلفة حول الكثير من الإشكاليات التي تعتري المصرفية الإسلامية. وقد وصلت الأمور إلى حد الاختلاف على ما ظن البعض أنها مسلمات ولا مجال للنقاش فيها. فقد أفتى أحد الرموز العلمية المسلمة في الوطن العربي بجواز الفائدة على الودائع، في حين أن شريحة أخرى اعتبرت أن ذلك هو الربا بعينه! وما بين الطرفين هناك أطياف متعددة من الرؤى بما فيها بنوك عالمية دخلت على الخط للحصول على شريحة من هذا السوق وقد أسست لها هيئات شرعية لها منطلقاتها ومفاهيمها الخاصة.
ومما زاد من القلق أن فضيلة الشيخ عبد الله المنيع - حفظه الله - عضو هيئة كبار العلماء ورئيس بعض الهيئات الشرعية في البنوك المحلية، قال "إن من يشكك في دور المصرفية الإسلامية لا يدرك ماهيتها ودورها وحجمها الحقيقي...". كما أوضح أن "المصرفية الإسلامية ما هي إلا صندوق للتمويل بعيد عن الربا والرجس والجهالة وما حرمه الله تعالى ...".
إذن الموضوع جدي ويحتاج إلى تفصيل ولكن قبل ذلك أود أولا التأكيد على حبي للشيخ الفاضل ولجميع علماء المسلمين الأجلاء الذين يعملون لرفعة دينهم وأمتهم وأسأل الله أن يسدد خطاهم وأن يرفع شأن أمتنا.
ثانياً: آمل أن يعد الشيخ عبد الله وغيره ما أقوله أسئلة تلميذ يجلس القرفصاء أمامهم ويرغب في التبحر في هذا العلم واستيضاح الحقائق، وألا يعدوها مناظرة أو محاججة، فما أنا بأهل لها مع قامات علماء الأمة.
أقول إن تحريم الربا لا نقاش فيه والحكمة من ذلك التحريم واضحة وتعنى عدم استغلال حاجات الناس، فقد ثبت على مستوى الاقتصاد الكلي أن الفائدة بتركيبتها الرأسمالية الحالية تؤدي إلى "خلق النقود" Creation of money وبالتالي ضخ المزيد منها في الدورة الاقتصادية دون أن يكون هذا الضخ مصحوباً بنمو حقيقي بعناصر الإنتاج مما يؤدي إلى زيادة الاستهلاك المصطنع وبالتالي التضخم. لذلك نجد أن السياسة النقدية تستخدم أسعار الفائدة كأداة للحد من سلبيات هذا التضخم أو تشجيع الاستثمار في الحالة المعاكسة بالتخفيض المستمر لها.
وقد كتبت في 7 ذو الحجة 1427هـ الموافق 27/12/2006م تحت عنوان "سبع سمان" مقال حاولت فيه تأكيد أن هناك قواعد اقتصادية ربانية، وقد ذكرت في الآية الكريمة في سورة يوسف - علية السلام - رقم 43 التي بينت قبل 1400 سنة نظرية الدورات الاقتصادية وكيفية التحوط منها. وكتبت أيضا في 10/10/1427هـ تحت عنوان " هل يمكن أسلمة "الرأسمالية الكافرة"؟!" وكانت حول التحريم والتحليل بهذه الآلية الجزئية. والفتاوى الشخصية التي تصدر بهذا الشكل أو ذاك تمثل وجهات نظر أشخاص لا يمكن البناء عليها لاقتصادات دول ومصالح مجتمعات، أفرادا وشركات. وبالتالي المقصد من الإشارة إلى كلام فضيلة الشيخ المنيع أعلاه أن الانتقاد لا يعني الإلغاء للفكرة أو القدح في التجربة ولكن بهدف تطويرها وإيجاد حلول حقيقية لمشكلة بشرية قبل أن تكون خاصة بالمسلمين، والكتابات العالمية تتحدث حالياً عن ثورة قادمة تتحدى العديد من النظريات الاقتصادية التي ظن الجميع أنها أصبحت مسلمات، ولكن القاعدة الربانية فوق كل القواعد البشرية التي لا بد أن تتغير.
وعلية أقول إن إقفال باب السؤال والتشكيك بهدف إثراء موضوع بحجم المصرفية الإسلامية لن يخدم المصرفية الإسلامية نفسها التي هي بحاجة إلى أن تتطور للوصول إلى الأهداف المنشودة، التي تتلخص في توافقها مع الشريعة بشكل كامل، وكذلك إيجاد البدائل الأنسب التي تخدم البشرية بأقل الأضرار، والتي سبقتها في العصر الحديث المدارس الاقتصادية المختلفة وعلى رأسها الرأسمالية الحديثة. نعم الربا نصاً حرام وفي آية صريحة في كتاب الله ولا أحد يستطيع القول إنه غير ذلك، وقد حُرم قبل الإسلام في كل الديانات السماوية التي سبقته. والسؤال بالنسبة لشريحة كبيرة بمن فيهم اقتصاديون يعملون على تطوير منتجات متوافقة مع الشريعة هو: ما هو الربا المحرم حسب التعريفات والأسس الاقتصادية؟ هل الزيادة في قيمة الأوراق المالية التي هي أوراق تطبع من قبل البنوك المركزية بناء على سياسة نقدية تتداخل في العناصر السياسية والاقتصادية مثل الرغبة في أن تكون العملة ضعيفة كما هي حال الدولار أو اليوان الصيني من خلال تخفيض سعر الفائدة هو الربا، مع العلم أن طباعة الأوراق لم تعد منذ عام 1971م مغطاة بالذهب؟ هل يمكن أن تكون هناك منتجات متوافقة مع الشريعة في ظل نظام اقتصادي قائم على الفائدة - النظام الرأسمالي - مثلا؟
إن أحد أهداف تحريم الربا في فهمي المتواضع هو الحث على العمل والإنتاج سواء التجاري أو الصناعي أو الزراعي أو الخدمي، إذا هل القروض التي تعطى كقروض تقسيط السيارات ونحوها - ونحن نعلم أن الأفراد قد لا يكونون بحاجة إلى السيارة كسلعة وإنما إلى النقد - هل شراء السيارة بالتقسيط وبيعها - مع العلم أن هناك غبنا فاحشا في أخذ السيارة بسعر مقسط على سنوات وبيعها على المتصيدين لحاجات الناس بسعر أقل، وبالتالي خسر المشتري في قيمة السيارة 2 في المائة – 10 في المائة وخسر في سعر التقسيط الذي يزيد على سعر الكاش بطبيعة الحال، وقد رأيت بنفسي بعض عقود التقسيط تزيد بأكثر من 60 إلى 80 في المائة من قيمة السيارة الحقيقية، أقول هل هذا يحل مشكلة تحريم الربا الذي هدفه منع استغلال حاجات الناس؟!!! وهل المقصود أن عائدها أعلى من عائد المصرفية التقليدية" إذن هي فيها استغلال أكثر لحاجات الناس من القرض المباشر بأسعار فائدة واضحة!!
الأهم في كل ذلك أن الخلاف واسع في نظرة العلماء المسلمين حول الحلال والحرام وبالذات في الأمور الاقتصادية كتفسير ما هو ربا وما هو ليس كذلك! كذلك الخلاف الآن واسع على المنتجات التي بدأت تدعي أنها إسلامية سواء من داخل عالما الإسلامي أو خارجه، ويكفيني الإشارة إلى أن علماءنا الأفاضل يختلفون في كثير من المنتجات الإسلامية التي اعتمدت في ماليزيا على سبيل المثال أو أوروبا كما في المنتجات التي بدأت تطورها بنوك عالمية مثل UBS وHSBC وCITIGROUP، وربما ينظر إليها بريبة كبيرة! الجدير بالذكر أن العالم ومن خلال العولمة المالية Globalization of Fnance يتجه بقوة إلى التوحد المالي، هذا إذا لم يتوحد فعلا، بدليل أزمة الرهن العقاري الأمريكي التي كان أول ضحاياها بنك بريطاني، وآمل أن يكون أول المستفيدين منها أهل الخليج لو استغلت بذكاء!!
آمل أن يفتح باب النقاش والحوار حول الموضوع بكل أبعاده ويُناقش بكل تفاصيله حتى يمكن الخروج بنظام مقنن قد يكون هو العلاج لمشكلات العالم الاقتصادية التي تتأزم يوماً بعد يوم.
خاطرة عابرة: عالمية الجامعات تكتسب ولا تؤسس!!