لم تعد أمريكا ذلك العالم الجديد
أنهيت دراستي في الولايات المتحدة منتصف العقد الأخير من القرن الماضي ورحلت عنها قرير العين مكحول. وقد تعلمت منها الكثير واكتسبت منها الكثير وأضافت إلي الكثير ليس فقط معرفيا وأكاديميا بل سلوكيا وحضاريا. وقد كانت أمريكا بالفعل مختلفة عن بقية دول العالم وصدق من سماها العالم الجديد فقد عهدناها عالما يختلف عن عالمنا هذا ويمكنك العيش فيها بمتعة لا تنقطع ومرونة لا تخالجها فوضى إذا عرفت كيف يعمل النظام الذي بنيت عليه وكيف تتقاطع الأنظمة ثم تتصل من جديد.
وبعد 20 عاما غيابا عن أمريكا عدت إليها هذا الصيف وفي ذهني تلك الأيام العذاب وذلك العهد المشرق وذياك الزمن الجميل ولكن منذ أن وضعت قدمي على أرض المطار رأيت عالما غير العالم الذي عهدته وأرضا غير الأرض التي ألفتها وأناسا غير الناس الذين تعايشنا معهم سنين عددا. لم يبق من ذلك العهد سوى البنية التحتية من طرق وناطحات سحاب وجسور ومنازل فهذه بقيت شامخات وكأنها صممت بالأمس رغم تعاقب السنين ويبدو أن تشييدها من البداية من أجل أن تبقى قرونا وليستفيد منها أجيال.
لقد اختلفت أمريكا التي عرفت اختلافا كثيرا بدءا بالتركيبة السكانية فالوضع الاقتصادي للدولة والأفراد، مرورا بسلوكيات الناس وعاداتهم وعلاقاتهم ببعضهم وعلاقاتهم بالمهاجرين الجدد. فرغم أن العراك بين السود والبيض ما زال حاضرا والفجوة بينهما لم تردم بعد، إلا أن السود لم يعودوا أقلية ولم يعد دورهم مقتصرا على تحقيق البطولات الرياضية والعزف والرقص بل أصبحوا قادة لشركات كبيرة وأساتذة في جامعات مرموقة وقريبين جدا من متخذي القرارات الاستراتيجية في بعض الولايات. وقد كنت أظن هذه الظاهرة مقتصرة على ولاية بعينها إلا أنني رأيت هذا قاسما مشتركا لغالبية المدن والولايات التي مررت بها خصوصا الولايات على الشريط الشرقي من حدود كندا حتى ميامي في فلوريدا. وإذا استمر الوضع على هذا الحال فأتوقع أن البيض في المستقبل المنظور سيكونون هم الأقلية لأن هناك تكاثرا بين السود بينما نسبة المواليد بين البيض منخفضة جدا ويظهر أن هناك عدم رغبة في الإنجاب، وقد يكون السبب التكاليف الباهظة أو المبالغة في اقتناء الحيوانات الأليفة خصوصا الكلاب والقطط وتدليلها والاعتناء بها حتى أصبح هناك رابطة بين المواطن الأمريكي الأبيض والحيوان تغنيه عن الوالد والولد والصديق والعشير.
كما أن كثرة المهاجرين كانت سببا جوهريا في تغيير التركيبة السكانية للمجتمع الأمريكي. ورغم أن السفارات الأمريكية حول العالم تفتح باب الهجرة الشرعية بين الوقت والآخر بهدف التنوع والتوازن الثقافي إلا أن هناك هجرات غير قانونية من بعض الدول المجاورة للولايات المتحدة الأمريكية ومن الدول التي كانت السياسات الخارجية الأمريكية سببا في دمارها وتغيير حكوماتها قسرا مثل الصومال والعراق وأفغانستان. والمهاجرون الجدد لم يندمجوا كثيرا في المجتمع الأمريكي كما فعل أسلافهم بل مازالوا يحملون عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم ويمارسون شعائرهم بل يعتزون بها ولسان حالهم يقول إن سبب هجرتهم شظف العيش وقلة ما في اليد وليس انبهارا بالنموذج الأمريكي الذي لم يعد يستهوي الشعوب.
الاختلاف الجوهري الثاني الذي لاحظته في المجتمع الأمريكي الذي لم يكون حاضرا من قبل هو الخلل الواضح في الناحية الاقتصادية. ظهر على المجتمع الأمريكي بكل شرائحه واختلافاته وطبقاته الثراء الذي لم يكن موجودا قبل 20 عاما لدرجة أنك لا تستطيع أن تميز بين الغني والفقير. وقد كنت أتوقع أن هذا ثراء حقيقي مبني على تدفق نقدي من أصول حقيقية وإنتاج فعلي إلا أنني تيقنت أن هذا ثراء مزيف مصدره الديون والقروض والرهون والبطاقات الائتمانية. فالمواطن الأمريكي لا يكاد يمتلك شيئا كل ما لديه ملك للمؤسسات المالية والمراكز التجارية وشركات السيارات حتى لقمة العيش التي يأكلها وتستقر في أحشائه يستدينها. وأرى أنها صدقت نبوءة كيوساكي عندما ذكر أنه سيأتي العهد الذي يولد فيه المواطن الأمريكي مدينا ويموت مدينا. بطبيعة الحال كانت القروض موجودة في تلك الحقبة ولكن لم تكن بهذا الحال الذي نراه الآن فقد كان بالإمكان تحاشيها إذا رغب الفرد في ذلك.
أما الآن فقد أصبح المواطن الأمريكي مكبلا بالديون طوعا أو كرها وهذا يدل على أن الرأسمالية التي تدعي أمريكا تبنيها قد انحرفت عن مسارها. فإنهاك الناس بالديون ليس من بنود الرأسمالية وتقديم الدعم المجاني لهم ليس أيضا من بنود الرأسمالية. تتعجب عندما يتحدث المتنافسون على الرئاسة الأمريكية هذه الأيام ويزعم كل طرف أنه سيقدم مزيدا من الرعاية للمواطنين على هيئة تأمين صحي وتعليم مجاني ونظام تقاعد عادل. ونحن نعرف أن الرأسمالية لا تقدم معونات ولا هبات ولا رعاية للمواطنين بل تقدم لهم الظروف المناسبة والحماية من أجل التنافس على كسب المال وتحقيق الرفاهية الاقتصادية ورغد العيش لأنفسهم بأنفسهم دون تدخل مؤسسات الدولة وهذا غير حاضر البتة في أمريكا الجديدة. هذه هي الرأسمالية التي نعرفها التي تعلمناها من الأمريكيين أنفسهم. إلا إذا كان هناك تطور في النظرية لا نعلم عنه ولم يتم نشره. ورغم أن أمريكا أنتجت عباقرة المال والأعمال وفيها أشهر كليات الأعمال، إلا أن شعبها أجهل الشعوب في فهم المصطلحات المالية.
ولا يقتصر التغيير الذي رأيته في الحياة الأمريكية على التركيبة السكانية وظروف الأفراد الاقتصادية بل يتعداه إلى اختفاء بعض العادات التي كانت تميز الشعب الأمريكي عن بقية شعوب العالم كشغفهم وهوسهم بالقراءة. فقد كنا نعهدهم يأخذون وجبتهم من القراءة كما يأخذون وجبتهم من الطعام إلا أن هذه العادة شبه اختفت. وقد غابت عنهم البهجة فلم نعد نراهم يبتسمون للحاضر والبادي ولم يعودوا يلقون التحية على من عرفوا ومن لم يعرفوا بل وجوه كالحة بائسة تظن أن يفعل بها فاقرة وكأنها استيقظت من كابوس مرعب. وهناك الكثير والكثير الذي يستحق الذكر عن أمريكا الجديدة ولكن المساحة المخصصة للمقال استوقفتني عند هذا الحد.