الحارس
في سلسلة أفلام "تهذيب السلوك"، وهي مقاطع من الأفلام القصيرة جدا، التي تنتجها وزارة التعليم في الفلبين.. يظهر مشهدان مستقلان تماما عن بعضهما.
في كل صباح.. كان الأب، يضرب مشردا وهو بأسماله البالية المهترئة، ويشتمه، وينكل به، حين يجده نائما على باب دكانه، لم يتورع في مرات كثيرة من سكب الماء البارد عليه في شدة البرد، ومن سكب الماء الوسخ على وجهه.. كان يلاحق ذاك المشرد بصنوف العذاب والضرب المتوحش.. وكان المتسول البائس تختلج ضلوعه على كل ضعف، ورقة جلد، وهشاشة عظم.. يلملم وجعه، يكتم صرخاته، ما عدا الأولى منها المنفلتة من ذعر المفاجأة، وألم الحواس. ويرحل يبرد بمشيه موجات الألم.. حتى تستريح وهو يتباعد في نظرات مذهولة عن كل شيء، لا يبصر فيها أحدا من العابرين.
وفي المشهد الآخر.. في كل صباح كانت ابنته تتصدق على مشرد ضعيف العقل، فاقد الحيلة في طلب رزقه، تحضر له طعامه، وتتحسس نظافته، والعناية به، بذاك القدر الضعيف من إدراكه، كان يرد لها الجميل، بحراسة دكان أبيها! حيث ينتشر اللصوص، يسرقون المتاجر الصغيرة.. في الضواحي الغافية بعيدا عن عيون الشرطة!
تأتي لحظة الكشف الأخيرة التي لا نملك نحن القدرة على سبرها والوصول إليها في حياتنا الدنيا، فقد غاب المتسول عن الطفلة وفيض عطيتها اليومية.. وغاب عن الأب بمرارة الذل، ومهانة الطرد عن بابه كل صباح! أخبره الجيران أنه قتله اللصوص لأنه أعزل حين كان يردهم عن دكانه، وأنه ظل يدفعهم عنه، بيدين فارغتين، وأنه لم يهرب رغم طعنه بالسكاكين أكثر من مرة، وأنه صرخ بصوت عال للمرة الأولى، كما لم يفعل حين كانت عصيهم تتهاوى على جلده الرقيق. أما الصرخة الأخيرة، فكانت حشرجة الروح الأخيرة، مع استقرار سكين أحدهم في خاصرته اليمنى! وبالرجوع إلى أشرطة التسجيل ظهر فيها المتسول، في كل الليالي يخوض معارك تجرحه، وتدميه في حماية دكان من يأتون بعصيه، وشتائمه، وعذابه.. إلا أنه لم يخذله، ولم يتركه، وفاء لقليل من الخبز، وكثير من الحب من طفلته المحسنة! في نهاية المقطع تأتي دموع الأب سخية مريرة فما أكثر من يحرسك وأنت لا تعرفه، وما أكثر المحسنين لك.. وأنت لا تشكرهم. وربما تسيء إليهم.
لا أحد يملك اليقين بالسبب الأخير الذي ينثر على أيامه البركة والخير، والسلامة والحفظ، كلنا لا نُدركه، ولكننا نلتقط بامتنان عطيته في غوامضها، لعلها ضراعة أمك المستجابة، لعله برك لأبيك الذي تقبله الله منك بقبول حسن، ففاض وامتد وإن سكب عليك بردا وسلامة وعافية.. لعلها صدقتك الأخيرة، لعلها دعوتك الخاشعة، لعلها وجفة صدق حملتها إلى الله دعوة مكروب فرجت كربته، أو مهموم أزلت همه، أو مدين قضيت عنه دينه.. لا أحد منا يُجزم بأي سبب من أسباب الخير حملت له سلامته، وبركته. ونجاته مما لا يعلم ولا يبصر، في داخلنا قلب غير حصين، ونحمل نفسا يعوزها الصبر، وفي عقولنا إدراك للوجود ضيق محدود بسيط.