حل إشكالية توظيف فوائضنا المالية

[email protected]

في زمن العولمة الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية وانحسار السياسات الحمائية تتعالى أصوات في الدول الغربية معادية للاستثمارات العربية كما لو أنها خطر داهم يهدد اقتصادات تلك الدول. هذا التخوف من الاستثمارات العربية مدفوع بحالة من العداء والنظرة الدونية لكل ما هو عربي، بحيث أصبح من المقبول سياسيا اتخاذ مواقف سلبية من تلك الاستثمارات حتى لو كان ذلك على حساب مصالح اقتصادية مؤكدة. فلا يخفى على أي مطلع أن ما عرف بالبترودولار في سبعينيات القرن الماضي، والذي قصد به عملية تدوير فوائض عوائد النفط إلى اقتصادات الدول المستهلكة من خلال الاستثمار المباشر فيها أو من خلال ارتفاع حجم التبادل التجاري معها، أسهم بشكل كبير، خلال الطفرة النفطية الأولى، في الحد من تأثر اقتصادات تلك الدول بارتفاع أسعار النفط. أيضا فإن للاستثمارات الأجنبية دورا فاعلا في معالجة اختلالات أساسية تعانيها بعض اقتصادات العالم الكبرى، كاقتصاد الولايات المتحدة مثلا، الذي لم يكن ليصمد كل هذا الوقت أمام عجز مزمن متواصل في الميزان التجاري والميزانية الفيدرالية، لولا تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الولايات المتحدة، ما حد من تأثير هذا العجز الثنائي في معدلات الفائدة وسعر صرف الدولار ومعدلات نموها الاقتصادي. وتجاهل كل هذه الآثار الإيجابية للاستثمارات الأجنبية واتخاذ موقف عدائي منها، لا يمكن تفسيره إلا بكونه موقفا يحظى بقبول شعبي سمح بظهور مثل هذا النقاش الغوغائي غير المسؤول حولها. فنحن لا نسمع، على سبيل المثال، أحدا يدعي أن الفوائض المالية للنرويج التي يديرها صندوق التقاعد النرويجي، أو ما كان يسمى صندوق النفط النرويجي، الذي يمتلك أصولا أجنبية وصلت قيمتها في أيلول (سبتمبر) 2007 إلى ما يزيد على 350 مليار دولار، تمثل تهديدا لاقتصادات الدول المستثمرة بها، كما عليه الحال بالنسبة للاستثمارات العربية.
وارتفاع أسعار النفط الخام وعودة تراكم الفوائض المالية لدى الدول المصدرة للنفط، يعني أن أكبر خدمة يمكن لها إسداؤها إلى الاقتصاد العالمي هي في تدوير فوائضها المالية إلى الدول المستهلكة ما يحد من الآثار السلبية لارتفاع أسعار النفط في اقتصاداتها. ولعل قرار "جهاز أبو ظبي للاستثمار" شراء وحدات ملكية قابلة للتحويل إلى أسهم عادية في بنك سيتي جروب بقيمة 7.5 مليار دولار، الذي سيسهم في مساعدة البنك على تجاوز الأزمة المالية التي يعانيها حاليا بسبب أزمة الرهن العقاري، مثال جيد لما يمكن أن تقوم به الاستثمارات العربية في مساعدة الاقتصادات الغربية، ليس فقط للحد من تأثرها بارتفاع أسعار النفط، وإنما أيضا في تجاوز أي أزمات أخرى تتعرض لها اقتصاداتها، كأزمة الرهن العقاري مثلا، التي تهدد الاقتصاد الأمريكي حاليا بأضعاف ما يمكن أن يهدده به ارتفاع أسعار النفط الخام.
إلا أن علينا أن ندرك أن تراكم فوائضنا المالية ونموها السريع يعود بشكل أساسي إلى تأثرنا الواضح بما تعرض له اقتصادنا بدءا من منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما تراجعت إيراداتنا النفطية بحدة وعانينا عجزا كبيرا متواصلا في ميزانية الدولة، وصل معه ديننا العام قبل سنوات قليلة فقط إلى ما يوازي ناتجنا المحلي الإجمالي، حيث تباطأت خلال تلك الفترة الحرجة عجلة التنمية بشكل واضح، مع اضطرارنا، في ظل شح الموارد المالية، إلى الحد من حجم الموارد المخصصة للصرف على البنية التحتية والتجهيزات الأساسية. هذه التجربة المريرة جعلتنا نعتقد أن التحسن الحالي في وضعنا المالي تحسن مؤقت، ستعود بعده معاناتنا مع مشكلة تراجع الإيرادات النفطية، ما برر تركيزنا على بناء الفوائض المالية التي تساعدنا على مواجهة احتياجاتنا المالية مستقبلا، وعدم مبادرتنا إلى تلبية احتياجاتنا الضرورية الملحة. بينما الواقع أن هذا الارتفاع في إيراداتنا النفطية لن يكون على الأرجح مؤقتا، وسنستمر سنوات عديدة, إن شاء الله, متمتعين بفوائض مالية كبيرة، ما يعني أننا يجب ألا نركز فقط على بناء فوائض مالية، وأن نعنى أيضا بتعويض برنامج التنمية الذي توقف لمدة 20 عاما تقريبا، حيث تسبب ذلك في ترد واضح في مستوى الخدمات الأساسية المقدمة للمواطن، خاصة الصحية والتعليمية منها، جعلها الآن تعاني اختناقات مزمنة.
وفي ظل أوضاعنا المالية الحالية، ليس من المقبول مثلا أن يكون متوسط عدد الطلاب في الفصل الدراسي يزيد على 50 طالبا، أو أن تعاني المؤسسات التعليمية نقصا واضحا في التجهيزات والهيئة التعليمية، إلى حد أنه في إحدى مدارس البنات في مدينة الرياض، وليس في هجرة أو قرية نائية، ظلت طالبات في الصف الأول الابتدائي هذا العام دون دراسة نحو شهرين بسبب معاناة مدرستهم نقصا في المعلمات، وحلت هذه الإشكالية، بشكل مؤقت فقط، من خلال التعاقد مع مدرسة وفق نظام الساعات. أو ألا يتجاوز عدد الأسرة الطبية لكل ألف ساكن سريرين فقط، بينما يصل العدد في دول خليجية أخرى إلى ما يزيد على أربعة أسرة، ويصل في بعض الدول المتقدمة إلى 15 سريرا لكل ألف ساكن. ويمكن زيادة قدرتنا على تنفيذ مشاريع عديدة وضخمة، من خلال العودة من جديد إلى أسلوب التعاقد مع الشركات الأجنبية التي تقوم باستيراد كل ما تحتاج إليه لتنفيذ تلك المشاريع من الخارج مباشرة، تماما كما كنا نفعل في السبعينيات، ما يحد من تأثير هذه المشاريع في معدلات التضخم المحلية، ويزيد من قدرة اقتصادنا الاستيعابية، ويسهم في تحقيق رفع سريع لمستوى الخدمات المقدمة للمواطن، وفي الوقت نفسه توظيف مثالي لفوائضنا المالية لا يقل أهمية عن استثمارها خارجيا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي