الفساد .. عبء مستتر على كاهل النمو

الفساد .. عبء مستتر على كاهل النمو

أصبح قلق المواطنين من دعاوى الفساد في القطاع العام خلال السنوات الأخيرة أكثر وضوحا وأوسع انتشارا. فمن ساو باولو إلى جوهانسبرج، نزل المواطنون إلى الشوارع احتجاجا على استغلال النفوذ. وفي بلدان مثل شيلي وجواتيمالا والهند والعراق وماليزيا وأوكرانيا، ترتفع أصواتهم برسالة واضحة إلى قادتهم: عالجوا الفساد!
وتحظى هذه القضية باهتمام صناع السياسات أيضا. فطالما كانت مناقشة الكلمة "ذات الفاء" قضية حساسة في المنظمات الحكومية الدولية مثل صندوق النقد الدولي. ولكن الصندوق استضاف في اجتماعاته السنوية التي عقدت أخيرا في العاصمة البيروفية ليما مناقشة تتسم بطرحها الصريح والحيوي لهذا الموضوع، حيث قدمت جلسة المختصين حوارا شيقا حول تعاريف الفساد وعواقبه المباشرة وغير المباشرة واستراتيجيات علاجه، بما في ذلك الدور الذي يمكن أن يؤديه الأفراد والمؤسسات على غرار الصندوق. ونقدم في هذه التدوينة فكرة عما دار في جلسة النقاش.
قد يبدو تعريف الفساد سهلا. فمعظم الناس يدرك أن بإمكانه التعرف على الفساد حين يراه، كأن يشاهد مسؤولا عموميا يتقاضى رشوة في مقابل كسب مالي أو سياسي. غير أن المختصين بدأوا يتوسعون في مفهوم الفساد. فبدلا من كونه مجرد معاملة بين طرفين، مثلما ذكر أحد المختصين في جلسة النقاش، يمكن أن يتجسد الفساد في شكل "خصخصة للسياسة العامة"، حيث تتواطأ النخبة صاحبة النفوذ في مجال الأعمال والسياسة للسيطرة على المؤسسات العامة، والاستحواذ على عملية صنع السياسات، واحتكار العقود والمشتريات الحكومية. وعرَّف مختص آخر الفساد بمفهوم أوسع من ذلك، حيث قال إنه "الافتقار إلى الحياد في الحكم" عندما تُستخدم الأموال العامة والسلطة الحكومية بطرق تؤثر سلبا في الرخاء الإنساني.
التكاليف الاقتصادية المباشرة واضحة لمعظم الناس. والطلب على الرشوة من مقدمي الخدمات يؤثر في تحقيق النتائج الاجتماعية. فرشوة مأمور الضرائب تخفض الإيرادات العامة وتقلل الخدمات العامة التي تقدمها الحكومة؛ والاختلاس يؤثر في بناء المدرسة لأنه يسلب الأموال المخصصة لها. ولكن التكاليف غير المباشرة من المرجح أن تكون بعيدة الأثر في الاقتصاد. وكما يرد في دراسة بعنوان الحوكمة، والفساد، والأداء الاقتصادي يحرر محتواها جورج العبد وسانجيف جوبتا، يترك الفساد أثرا سلبيا في النمو الاقتصادي من خلال أمور مثل الاستثمار المفرط في البحث عن الريع، والاستثمار القاصر في الأنشطة الإنتاجية، والإبقاء على السياسات غير ذات الكفاءة. وهناك تكاليف اقتصادية باهظة يتسبب فيها الفساد – الذي يصيب البلدان في كل مراحل التنمية. ففي دراسة صدرت عام 2005، تقدر التكلفة العالمية للرشوة وحدها بقيمة تصل إلى 1.5 تريليون دولار أمريكي (بواقع 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي الحالي). وتشير دراسات أخرى إلى وجود ارتباط وثيق بين انخفاض مستويات الفساد ومظاهر التحسن طويلة الأجل في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي على مؤشرات التنمية البشرية. وخلاصة القول إن الفساد عبء على النمو والاستثمار.
وإضافة إلى ذلك، أكد بعض المختصين في جلسة النقاش أن التكاليف لا تقتصر على الجانب الاقتصادي. فالفساد يسهم في فقدان ثقة الجماهير بالحكومة، وزيادة عدم المساواة في التأثير السياسي، وتدهور القيم العامة، وتراجع رخاء المواطنين أو جودة حياتهم. وتشكل هذه التكاليف غير الاقتصادية قصورا في أداء القطاع العام يلحق الضرر بالاقتصاد على المدى الطويل.
نظرا لشيوع الفساد ووضوح عواقبه في الوقت الراهن، اتفق المختصون في جلسة النقاش على أن معالجة هذه المشكلة تتطلب منهجا واسع النطاق ومتعدد الأبعاد. ومثل هذا المنهج الشامل يتطلب وجود قيادة مؤهلة كما يقتضي تغيير الحوافز وبناء القيم، وكلها عوامل يدعم كل منها الآخر.
ـــ أولا، يجب أن يكون القادة مستعدين لمحاسبة أصحاب المصالح ذوي النفوذ ــــ الأسماك الكبيرة وليست الصغيرة، النمور وليس الذباب. وعليهم تقديم القدوة بأن يكون سلوكهم فوق مستوى الشبهات. ويعتبر لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة الأسبق نموذجا للقائد الذي نجح في محاربة الفساد بتقديم القدوة وتوفير الإرادة السياسية.
ـــ ثانيا، الحوافز القوية. فالقيادة يجب أن يكملها نظام قوي يقوم على الترهيب والترغيب – الدعم الإيجابي والمساءلة. وينبغي أن يتوافر إطار واضح ومفعل لمحاربة الفساد. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تضمن الحكومات حصول المسؤولين العموميين على أجور تكفل الحد الأدنى للمعيشة. وسيساعد في هذا الصدد أيضا الانفتاح الاقتصادي عن طريق إلغاء القيود والتحرر، لأن الاقتصادات التي تفرط في التنظيم توجد حوافز قوية للحفاظ على ممارسات الفساد. وتعتبر بولندا نموذجا جيدا لتدابير التحرير السريعة والفعالة. وتسهم شفافية عمليات الحكومة ومعاملاتها بدور مهم أيضا كأحد العوامل المثبطة للفساد.
ـــ ثالثا، بناء قيم النزاهة. فالبلدان في حاجة إلى تشجيع ثقافة تُعلي قيم الحكم النظيف. ويتطلب بناء هذه الثقافة توعية المواطنين. ويمكن أن يساعد التدريب الرسمي في هذا الخصوص، ولكن تعلم القيم يجب أن يتم في نهاية المطاف عن طريق النظام التعليمي وضغط الأقران، وخبرات وممارسات العمل اليومي في المؤسسات المختلفة.
وفي معظم الحالات، تكون بداية الفساد قبل أن يصبح مؤثرا في الاقتصاد الكلي بوقت طويل. فمتى ينبغي أن تبدأ مشاركة الصندوق في معالجته؟ ونظرا لتأثير الفساد على المدى الطويل، هل ينبغي أن تكون المناقشات بشأنه جزءا من مشاورات الصندوق السنوية مع البلدان الأعضاء؟ هنا أقر النائب الأول لمدير عام الصندوق أن إجابة هذا السؤال ليست سهلة. فرغم زيادة تقَبل البلدان الأعضاء لمناقشة الفساد، فلا يزال يعتبر موضوعا حساسا وسيتطلب الأمر مزيدا من البحث والمناقشة لتحديد دور الصندوق في معالجته. وعلى أي حال، أكد "ليبتون" أن على الصندوق أن يساعد البلدان التي تبدي إرادة سياسية حقيقية لمعالجة الفساد على إجراء التغييرات الجريئة والشاملة الضرورية في سياساتها الاقتصادية وأطرها التنظيمية للحد بشكل حاسم من تكاليف هذا العبء المستتر.

الأكثر قراءة