الانتماء للوطن أولا
عندما نشرت المخابرات المصرية قصة "العميل 313" رأفت الهجان، أو من كان يسمى في إسرائيل بـ "ديفيد شارلي سمحون"، في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، وجسدتها الدراما المصرية عبر مسلسل من ثلاثة أجزاء، تعلقت قلوب كثير من العرب بذلك الرجل الذي ضحى بكل شيء من أجل وطنه، وعاش جل حياته في إسرائيل مخبرا لبلاده في حربها مع العدو الصهيوني.
كان ضابط الاستخبارات المصري الذي جند رأفت الهجان وزرعه داخل إسرائيل عندما يريد أن يرفع من معنوياته ويشحذ الهمة لديه يقول له بالحرف الواحد "مصر محتجالك يا رأفت"، وكان "العميل 313" ينسى الغربة والتعب والخوف الذي يحيط به عندما يكرر عليه تلك الجملة.
رأفت الهجان -وفق الرواية التي كشفت عنها الاستخبارات المصرية- عندما شد رحاله إلى إسرائيل وهو في سن الـ 26 من عمره كان يضع نصب عينيه مصالح وطنه في المقام الأول، لم يفكر في العمر الذي سيقضيه في إسرائيل الدولة العدو بعيدا عن المجتمع الذي ولد وترعرع فيه، ولم يفكر في المخاطر التي تنتظره هناك، ولا في حبل المشنقة الذي يمكن أن يلف عنقه في حال اكتشاف أمره، لم يختزل مصر في عائلته التي اضطهدته في طفولته ومراهقته، أو في أجهزة الأمن التي لاحقته قبل تجنيده ورمته في المعتقل أكثر من مرة، بل كان يتعامل مع وطنه كانتماء وهواء يتنفس ويحيى به.
وأنا أسترجع الآن رواية الهجان التي شدتنا ونحن صغار، جال في خاطري "نماذج"، جعلت وطنها في آخر اهتماماتها، وقدمت الانتماء الحزبي أو الطائفي العابر للحدود على الوطن، وجندت أقلامها نصرة للحزب وللطائفية، ولم تنصر وطنها ولو بكلمة واحدة في كل قضاياه.
شتان بين "أنموذج" الهجان الذي ضحى بأكثر من 20 سنة من عمره وهو يخدم وطنه، وبين هؤلاء الذين ضحوا بوطنهم من أجل حزبيتهم أو طائفيتهم، لا يمكن أن يجتمع من يقدم وطنه على كل شيء، وبين من يقدم أي شيء على وطنه.