ثمن العولمة...!!!
قد يكون الانطباع الأولي الذي يعطيه العنوان أعلاه أننا دخلنا العولمة أخيراً، وهذا غير صحيح، فالاقتصاد السعودي مفتوح على الأسواق العالمية منذ ناشئته. ولكن الجديد هو أن جيلنا باختصار جيل المرحلة "الانتقالية" الصعبة لتحديات كبيرة تختلف كليا عما سبق أن عاشته المملكة من تحديات منذ تاريخ تأسيسها، وهي تحديات تعيشها كل الأمم تقريباً تتلخص في عمومها "بالنظام المالي العالمي" الذي يعيش مرحلة انتقالية لا أحد يعلم طبيعتها ولكنها حاليا محكومة بالدولار الذي هو ملك للأمريكان ومشكلة للعالم؟ كذلك لا أحد يعرف ممن ستتكون أوراق اللعبة الجديدة لهذا النظام الجديد؟ وما شكل الدولار الجديد؟ ومن اللاعبون الجدد فيه؟ ولكن يمكن ذكر أن على رأس تلك التحديات العالمية ما يعرف بالعولمة المالية وباللغة الإنجليزيةGlobalisation of finance، وهو التحدي الأكبر للجيل الحالي الذي يعيش فترة تحديات ذات طابع عالمي بشكل "غير محسوس" وسريع في تأثيره في أكثر من صعيد، تصبح معه الخيارات محدودة بحكم قوة وطبيعة التغير الذي تقوده قوات غير مرئية تشجع على مزيد من السلوك الاستهلاكي للأفراد والمجتمعات بشكل واضح، وتمتلك فيه تلك القوات كل شيء بما في ذلك القدرة على أن تحول أفرادا ومجتمعات من مليونيرات إلى مفلسين في ثوان! وهذه إحدى تحديات العولمة المالية!!
بطبيعة الحال آباؤنا وأجدادنا عاشوا فترة قد تكون أكثر من قاسية وذات طبيعة "تغييرية" هائلة من مجتمع بسيط لم يتعد مفهوم القبيلة وأحيانا أفخاذ القبيلة إلى مجتمع يحاول أن يصنع حضارة ذات طبيعة جديدة عبر مفهوم الوطنية والمواطنة (ولكنهم كانوا يملكون قراراتهم). وقد يكون نتيجة لهذا التغير الكبير الذي عاشه آباؤنا وأجدادنا وتحولنا بفعله وعبر عقود قد تتعدى النصف قرن بقليل إلى مجتمع حضاري بالمعنى المادي للحضارة نعيش مثل غيرنا نستورد كل المنتجات العالمية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومع ذلك ظلت الحضارة التي عشناها مع "المحسوس" المادي من سيارات، الإلكترونيات، وكل التفاصيل المادية إلى درجة أنك تشاهد بعض السلع ولا تعرف من يستخدمها لأنها - وحسب معرفتي - لا أرى لها مكانا بيننا آخذين بعين الاعتبار التركيبة الدينية والمجتمعية، ولكن سرعان ما تكتشف أنها مطلوبة وبكميات تتطلب استيرادها بشكل تجاري! هذا على الصعيد المادي.
رغم هذا الانفتاح الكبير فإننا لم نشاهد تأثيرات حقيقة في حياتنا وثقافتنا الاجتماعية والدينية بشكل واضح حيث ما نزال رغم أن لدينا أفضل السيارات إلا أننا الأقل التزاماً واحتراماً للشارع وأنظمة المرور، وعلى ذلك قس باقي شؤون حياتنا. القصد ليس التثبيط ولكن إعطاء صورة عن الراهن لتحديد طبيعة التحديات التي بدأنا في مواجهتها بشكل مختلف عما تعودنا عليه. وهي حقيقة العولمة في المستقبل حيث كان لدينا إصرار كامل على دخولها من خلال منظمة التجارة العالمية وهي تعد رمزاً للقبول بشروط وتحديات العولمة بكل ما تحمله الكلمة من معان وليس معنى واحد.
منذ ثلاث سنوات بدأت الأمور تأخذ منعطفا أكثر حدة فيما يخص شؤوننا الاقتصادية، تضخم، انهيار سوق مال لم يسبق له مثيل على مستوى التأثير في كل أسرة وكل فرد في المملكة، دولار يجرنا بكل إصرار إلى المجهول، أنظمة جديدة غير معهودة، تعديلات إدارية وهيكلية، وإلى آخر القائمة من تحديات. نتيجة ذلك كان هناك تأثيرات بدأت أعراضها في حياه الفرد والمجتمع والمؤسسات، حتى وصل إلى الإبل والطيور ولم نستطع التعاطي معها كما يفترض ولكن فقط عبر أسلوبنا المعهود، وهو التصريح بأن كل شيء على ما يرام ولا داعي للقلق. وهذه إحدى مميزات العولمة فلو لم تكن إنفلونزا الطيور وباء عالميا ويشاهده الجميع في كل دول العالم، ويرون أن هناك إجراءات تتخذها هذه الدول لكان المسؤول ينكر كل ذلك أيضا!!
قد يكون "بعض" متخذي القرار على علم ووعي بهذه التغيرات فهم من أوصى بهذا التوجه وبالتالي الافتراض أن يكون القرار متخذا على هذا الأساس، على أساس معرفة التحديات وطرق التعاطي معها عند حدوثها. لكن المشكلة أن التحديات تتطلب نظام مؤسسات ذات تنظيم متكامل حتى يمكن لنا مواجهتها وهذا هو الأسلوب الوحيد للنجاح. والمشاهد للمُتخذ من إجراءات على المستويات التنفيذية في كثير من شؤون حياتنا يمكن القول بكل ثقة إن هؤلاء المسؤولين لم يدركوا بعد طبيعة التحديات الجديدة وأنها قد تغيرت تماماً وإن التحديات الحالية تتطلب تعاملا مختلفا عما تعودنا عليه عبر إدارة الصادر والوارد في تلك الجهات وبالذات في القطاع المالي الذي شهد انفتاحا كاملا بحكم أنظمة التجارة العالمية لم يشهده الاقتصاد السعودي منذ نشأته. وهو أمر ممتاز إذا ما تم التعامل معه بحرص ومهنية شديدة لتعظيم الفائدة وتقليل تأثيرات السلبية، ولكن قد يكون الأمر عكس ذلك إلى ما نظر إليه بأنه مثل باقي النشاطات التجارية العادية.
وعلى المستوى الفردي والأسري أقول إن التحديات تتطلب من الفرد والأسرة إدارة مالية مختلفة عما تعودوا عليه سابقا، وتطوير أدوات الادخار والاستثمار وبرامج تخص التعليم والصحة وإدارة الأزمات المالية الأسرية حتى يمكن أن يكون هناك استقرار، لأن الأنظمة لن تكون كما كانت في السابق عبر دولة الرعاية الأبوية!
الحقيقة أن للعولمة ثمنا، ولكن بجهود مخلصة يمكن تخفيض هذا الثمن، وجعل حياة المواطن والمجتمع أقل تأثراً مع طبيعة هذه التحديات من خلال تعاون مشترك بين كافة المستويات التنفيذية وكذلك الأفراد أنفسهم كمواطنين، ولكن العبء سيكون أكثر على الجهات التنفيذية في الرقى في التعامل مع كل المتغيرات بمهنية عالية جداً لمواجهة هذه التحديات. وهي تحديات في صميم شؤون حياتنا وفلسفة حياتنا كلها من خلال النظام وهو أمر لا يقبل المساومة أو الجدل. وبصراحة لا أرى أننا مستعدون لها وبالتالي قد ندفع ثمناً باهظا لا يستحق دخولنا – مجبرين - في عولمة عالمية، هي نفسها تشكك في ما هو قادم منها!