من هجرة الحرب إلى هجرة الغلاء
حين أصبحت حرب تحرير الكويت على الأبواب، وأطلق صدام حسين سعار حربه النفسية في توجيه أسلحة الدمار الشامل ضد دول الخليج وبالذات السعودية هرع بعض الناس إلى هجر المدن الكبرى وراحوا يتهافتون على القرى والبلدات النائية، وشهدت بيوت طينية مهجورة ران عليها الصمت سنين طوالا قاطنين جددا لا يناسبونها ولا تناسبهم لكن البحث عن الأمان آنذاك كان عراب الموقف.
تلك هجرة ظرفية أملتها تداعيات همجيات طاغية العراق الراحل، غير المأسوف عليه. لكن الهجرة الأخرى التي تكاد تكون على الأبواب هي بفعل الغلاء وأزمة السكن والعمل. فارتفاع الأسعار طال المأكل،والمشرب، الملبس، الدواء والتعليم. ودعك من الترفيه أو المواصلات أو العمالة المنزلية التي تورطنا فيها ناهيك عن السكن، حيث بات من لديه قطعة أرض لا يحلم ببنائها لأن مواد البناء وعمالته صارت صعبة المنال لجنون الأسعار وندرة المقاولين، أما مَن لديه سكن بالإيجار (وما أكثرهم!!) فما عاد أمامه من خيار غير تقبل مضاعفته وإلا فليحمل أولاده ومتاعه ويرحل.
علاوة على ذلك، تنافست المدارس الخاصة، المراكز الصحية الخاصة والصيدليات مع التجار، فارتفعت الأقساط دون مراعاة للأصول، لأن المفترض ألا تزيد المدارس فلساً واحداً على مقدار المبلغ الذي تم التعاقد عليه عند دخول المدرسة، فيما أصبحت تكاليف علاج المراكز الصحية بلا ضابط أما الدواء فتكفي زيارة لثلاث صيدليات حتى نجد التفاوت العجيب في الأسعار، بل إن الصيدلية نفسها تبدل السعر بين الأمس واليوم.
قيل لنا إنه التضخم القادم من الخارج.. قلنا: حسناً.. حسنا، لكن هل تعالج الساق المكسورة بجورب من حرير؟! فالخارج دول منتجة، متقدمة، أما نحن فدوله مستهلكة نامية في أحسن الأحوال. وما دام الأمر كذلك فجورب الحرير لن يجبر الكسر ولن يداوي الوجع، وها هم الناس تعاودهم فكرة الهجرة للقرى والبلدات تحت ضغط الغلاء وأزمة السكن.. يفكرون في نفض الغبار عن بيت جد أو جدة، عن بيت خال أو عم أو قريب، حتى لو كان من نوع "أطلال برقة ثهمد" طالما أن مشاريع الإسكان الشعبي وغير الشعبي بكل ما رصد لها من مليارات تمشي مشي السلحفاة، وطالما أن شركات الإسكان الكبرى تجعجع ولا تطحن، وطالما أن شروط الإقراض في البنوك وأرباحها الجائرة المركبة الشاذة سارية المفعول، وطالما أن معزوفة الرهن العقاري والأقساط الميسرة مجرد هرولة بين "حانا ومانا"، تصبح العودة إلى مضارب الأهل في البادية أو الدور القديمة في القرى والبلدات، أرحم من شقق رطبة خربة أكل الدهر عليها وشرب في دهاليز أحياء المدن الكبرى مؤجرها يطلب مقابلها دخل رب العائلة وربما دخل كل أفرادها.
هكذا صار أو قد يصير البعض: فمن لم تكن هجرته للهرب من الضجيج والزحام، فهجرته لأن المكتب العقاري يطلب بدل العشرة عشرينا، أو لأن محاسب المدرسة يطلب بدل الخمسة سبعة أو عشرة، وحانوت المواد الغذائية يستنزف ألف ريال بدل الخمسمائة ريال وهلم جرا.
من هجرة الحرب إلى هجرة الغلاء.. الأولى كانت تجربة نفسية طارئة لمدة قصيرة، أما هذه فسياق تنموي مسؤولة عنه برامجنا ومشاريعنا التنموية في الإسكان، التعليم، التوظيف والسعودة ومسؤولة عنه سياستنا الاقتصادية وإدارتنا التجارية.. علماً أن هذه الهجرة "المحتملة"، ليست مما يحمد، لأنها ستترك وراءها عملاً أو موارد رزق لا بديل عنها، ومدارس ومرافق خدمات وطموحات لا تتوافر في قرانا وبلداتنا التي بالكاد كانت تغطي احتياجاتها.. ولكيلا يكون الأمر كذلك، فالمطلوب: خطوات إجرائية من قبل الأجهزة الحكومية المعنية لا تتوه فيها القضايا وتنعقد في الاجتماعات واللجان وإزاحة عبء المسؤولية من كتف هذه الوزارة إلى كتف تلك، والمطلوب أيضا: رقابة صارمة على الأسعار، إعانة للمواد الغذائية، تحديد نسب معقولة للإيجار، معاقبة صارمة لأي نوع من الاحتكار، فقوة القانون في سريانه لا في إصداره.. هذا هو لب استراتيجية حماية النزاهة ومكافحة الفساد، أليس كذلك؟!