ثانوية عنيزة ذات التاريخ العريق

أحدثت ثانوية عنيزة منعطفًا جميلاً في حياتي، وغيَّرت مسيرة دربي - بمشيئة الله - إلى الأفضل. فقد أنشئت ثانوية عنيزة قبل 60 عامًا، والتحقت بها قبل 58 سنة، أي بعد إنشائها بسنتين، وتخرجت مع أول دفعة عام 1959. كانت ثانوية عنيزة في ذلك العام الثانية بعد الرياض، خارج منطقة الحجاز. وتستعد إدارة تعليم عنيزة الآن لإقامة احتفال ثقافي كبير بمناسبة مرور 60 عاما على إنشائها. وستقام المناسبة خلال بضعة أشهر تحت رعاية أمير منطقة القصيم وحضور وزير التعليم. وقد أسهم في إقامة الحفل ماليًّا ومعنويًّا ولوجستيًّا عدة جهات ممن لهم دور متميز في دعم مسيرة وتطوير التعليم ونشر الثقافة. ولمنسوبي إدارة التعليم في عنيزة مجهود متميز يُشكرون عليه، بارك الله فيهم وفي جهدهم. وقد ظلت ثانوية عنيزة تؤدي دورها الريادي وحدها لعدة عقود قبل أن تنضم إليها ثانويات بلغ عددها اليوم 14 ثانوية، ولا تزال تحمل اسمها الأول "ثانوية عنيزة". وقد خرَّجت الآلاف ممن خدموا هذه البلاد من وزراء ورجال دولة ومهندسين وأطباء مشهورين وأساتذة جامعات ورجال أعمال مرموقين.
أما قصتي مع ثانوية عنيزة، فتتمثل في كوني، في أوائل عهدها، على مفترق طرق بين مواصلة التعليم أو الزواج أو الاثنين معًا. تزوجت ومستوى تعليمي رابع ابتدائي. وقررت الحصول على شهادة الابتدائية من المنازل خلال شهرين من الدراسة الخاصة، وكنت أنوي العودة إلى المنطقة الشرقية لأستأنف العمل الحكومي هناك براتب يزيد على 400 ريال في الشهر، وأنتظم في المدارس الليلية التي كان لها في ذلك الوقت دور كبير في تعليم كبار السن والموظفين. وقبل مغادرة عنيزة، بلغني عن طريق أحد الأصدقاء خبر فتح لي مجالاً جديدًا للتفكير، ومفاده بأن وزارة المعارف تصرف لطلاب الدراسة الثانوية مبلغ 150 ريالاً شهريًّا لتشجيع التعليم الثانوي، وهو مبلغ له قيمته في ذلك الوقت. وكانت آنذاك فكرة رائدة على عهد الملك سعود طيب الله ثراه. فأصبح أمامي خياران، إما السفر والعمل في الشرقية مقر عملي قبل الزواج براتب جيد ومستقبل محدود، وإما قبول دخل متواضع جدًّا، وأتحول إلى طالب عادي رغم تقدمي في العمر بالنسبة لمعظم الطلبة. وكانت أحوال العائلة المادية أقل من متواضعة؛ فالوالد عليه رحمة الله لم يكن له دخل يكفي للأسرة بعد زواجنا. ومع ذلك، فقد كان من الممكن الاكتفاء بإضافة المكافأة المدرسية لبضع سنوات تحت ظروف الضرورة القصوى. وحَسَبت حساب إمكانية العمل خلال العطل الصيفية براتب بسيط. وبعد تفكير عميق مالت الكفة نحو الدراسة النهارية رغبة في الحصول على تعليم قوي ومستقبل أفضل. ويسر الله وانتظمت في أولى ثانوي، الذي هو اليوم أولى متوسط، فقد كانت الدراسة الثانوية آنذاك ست سنوات، متوسط وثانوي تحت مسمى واحد، وربما أنني كنت الأكبر سنًّا في المدرسة، وكان معظم الطلبة يصغرونني بعشر سنوات، ولم يكن لذلك أي تأثير في العلاقة بيننا، فكلنا طلاب علم، ولكنني لم أكتف بالدراسة العادية، فقد كنت أستغل العطلة الصيفية وأدرس مواد السنة القادمة، وأختبر فيها مع طلاب الدور الثاني، ما ساعدني على توفير سنتين، وأكملت الدراسة الثانوية في أربع سنوات بدلاً من ست سنوات، وهذا يفسر كون التحاقي بالمدرسة في ثالث سنة من إنشائها، وتخرجت مع أول دفعة عام 1959.
وكنت أعِدُّ نفسي بعد إكمال الدراسة الثانوية للالتحاق بالجامعات المصرية حسبما كان متبعًا في ذلك الزمن، فمعظم البعثات تذهب إلى مصر، وفي ذهني دراسة الطب. وبعد أسابيع من إعلان نتيجة الثانوية العامة صدر إعلان من وزارة المعارف عبر الإذاعة عن عزم الحكومة بدء إرسال بعثات دراسية إلى الولايات المتحدة للتخصص في الصناعة البترولية. وكان اسمي ضمن 21 طالبا اختارتهم الوزارة للابتعاث، ولم يكن لدي ما يمنع قبولي الانضمام إلى المجموعة المختارة. واتضح لنا فيما بعد أن الذي رتب لذلك البرنامج الجديد وإلى جامعة تكساس بالذات هو الشيخ عبد الله الطريقي رحمه الله، وطلب من وزارة المعارف تبني وإدارة مشروع الابتعاث الذي توالت دفعاته أكثر من عشر سنوات وبأعداد مضاعفة، وتخرج فيه مئات الطلبة في مختلف التخصصات العلمية، معظمها له علاقة بالصناعة البترولية. والجدير بالذكر أن الطريقي رحمه الله كان قد تحصَّل على درجة الماجستير في الجيولوجيا عام 1948 من الجامعة نفسها، وتخرجت دفعتنا عام 1964.
وقبل أيام كنت في زيارة لعنيزة وتلقيت دعوة كريمة من إدارة الثانوية واتفق مع آخر يوم من الاختبارات النهائية. ذهبت في الصباح الباكر إلى مدرستي التي لم يكتب لي زيارتها منذ تخرجنا فيها عام 1959، والطلبة على وشك تسليم أوراق آخر اختبار، وكانت مفاجأة لي هدوء وانتظام الطلبة واحترامهم لمعلميهم، حتى يخيل إليك أنك في مدرسة عسكرية، ولكن دون الهيبة العسكرية المعهودة. وهذا دون شك يعكس العلاقة الطيبة بين المعلم والطالب وتبادل الاحترام بينهما، وكنت أظن أنني سأشاهد شيئا من الفوضى و(النرفزة) وتمزيق الكتب، ووجدت العكس تمامًا. وتحدثت مع الطلبة وأبديت لهم إعجابي بأخلاقهم وحسن مظهرهم وسلوكهم. وعرَّفتهم بنفسي كزميل قديم، وأن زيارتي تلك كانت بعد غياب دام 57 عامًا، وأنه أول مرة أشاهد طلبة لا يسارعون إلى الخروج من المدرسة بعد اختبار دراسة دامت عامًا كاملاً. وقد أعدت لهم إدارة المدرسة مفاجأة لطيفة، هي لوحة لكل طالب تحمل أسماء وصور زملائه في الفصل، ووجبة غداء دسمة للطلاب والأساتذة، شارك فيها محدثكم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي