عفوكما .. يا طفلي نجران

لم أصدق وأنا أقرأ اعتذار المديرية العامة للشؤون الصحية في منطقة نجران، عما حصل للطفلين يعقوب التركي وعلي السعودي من مأساة، بتبريرها له على أنه (خطأ غير مقصود!!)، ولم أستطع أن أقول كعادتنا: يا له من عذر أقبح من فعل، لأن الفعل كان حقا شنيعا مؤسسيا إلى حد إدماء الأكباد!
أسمعتما يا يعقوب ويا علي، النبأ الذي هز البيوت السعودية، بررته المديرية العامة للشؤون الصحية في منطقة نجران على أنه فقط (خطأ غير مقصود)؟ كما لو كان "لخبطة" تسليم ملابس في مغسلة أوتوماتيكية. مع أن الأمر برمته لم يكن سوى دليل على بلادة الضمير وتخشب الإحساس والاستهتار بالمسؤولية من قبل الموكلين بأمانة تسليم المواليد إلى ذويهم في قسم الولادة في مستشفى الملك خالد في نجران..
هكذا يا صغيريّ بـ (خطأ غير مقصود) أصبحت "ماما" غير "ماما" و"بابا" غير "بابا"؟ وأصبح الإخوة والرفاق غير الإخوة والرفاق والأقارب غير الأقارب والبلاد والحارات والدروب والأرض والسماء جميعها صارت غيرها، وصرتما أنتما في غمضة عين غريبا الدار والأهل والوطن واللغة.. لماذا؟ بسبب (خطأ غير مقصود!!) هل سمعتما؟ (خطأ غير مقصود!!).. آه.. ياللعبارة التي تهدد بالذبحة الصدرية!!
كبدي عليكما يا يعقوب ويا علي اللذين لم تعودا لا علياً ولا يعقوباً لا سعودياً ولا تركيا، فقد أدار (الخطأ غير المقصود) عالم كل واحد منكما 180 درجة وصار عليكما أن تعيدا مسار تاريخكما للوراء أكثر من أربع سنوات، أكثر من 8640 يوما، بل أكثر من 31 مليون ثانية هي عمر نبضات خلايا روحيكما الطاهرتين، وأن تستبدلا الأب والأم والمعارف والأصحاب والحروف والكلمات والدفء والطعم واللون والصوت والرائحة..
لو عرف عنكما الروائيان التركيان (ياشار كمال) و(عزيز نسينن) لربما أعادا كتابة رواياتهما تحت قشعريرة حمى مأساتكما، أما الروائيون السعوديون الذين صعقهم ما أحاق بكما من كارثة فأخالهم فزعين من أن يمضوا في إكمال ما كانوا يخطونه من أعمال بعد ما تابعوا فصول روايتكما التي كانت فداحتها لا تمهل ولا تهمل، تجعل الرأس يشتعل شيبا والأقلام تقطر دما ودمعا، أما الورق فضرام صاعقة!
كبدي عليكما، والأرض تكاد تنهار من تحتكما وأنتما تجدان نفسيكما أمام قضاة وشهود، وأمام آخرين يلبسون الأروبة والنقابات البيضاء يقاسم الواحد منكما مقعدا مع أحدهم لعله بحنوه يستطيع ترتيب أثاث الروح وجس الجراح دون خدش للبراءة أو تعكير للطمأنينة أو تلويث لنقاء سريرتيكما اللتين دأبتا على مزج ذهب الشمس بوارف الظلال بعفوية وأنتما تشهقان في مرح طفولي ضاحكين من صنيعكما فيما بعض منا نحن الكبار (متبلدون أو متبلدات) يولمون لكم مائدة من الشوك والزقوم والعلقم وأنتما غافلين.
لقد حفر (الخطأ غير المقصود) خندقا في أعماقكما.. الإخصائيون النفسيون يسمونه شرخ الأمان.. هذا الصدع الرهيب يحدث حين تنهار العلاقات الزوجية أو حين يتعرض الأطفال إلى خضة رعب من أي نوع.. لكن شرخكما بات كما قلت خندقا.. ومع ذلك سوف يناضل الطيبون منا: أطباء النفس، الإخصائيون الاجتماعيون ورعاة الطفولة على ردمه ودمل صديده الحارق.. وحتماً.. تلك مهمة عسيرة وليست بمأمونة العواقب، فالكلمات والإشارات والإيماءات في مواجهة مع شغاف مرهف حساس، يتطلب تهيبا وحذرا للسير بخطوات مائية والتسلل كيد والدة رؤوم وأب حانٍ.. كان الله في عون مَن سيتولون هذه المهمة التأهيلية النبيلة، فالألغام فيها قاب قوسين أو أدنى للانفجار فيما لو لم يحالف الحظ فيها أي كلمة أو أي إشارة!!
يا علي السعودي الذي لم يعد سعودياً ويا يعقوب التركي الذي لم يعد تركيا.. بأي عذر أعتذر منكما أيها الصغيران؟ أرجوكما حين تكبران اصفحا عنا سامحانا نحن الذين تندى جباهنا خجلا لأن فينا مَن لم يجد من الكلمات للتبرير سوى (خطأ غير مقصود!!)، وفي ظني أنكما حينذاك سوف تسألان: وهل هناك (خطأ مقصود) غير الجناية أو الجريمة؟ إنما.. عفوكما.. أجل.. عفوكما وليس لي سوى أن ألوذ بكلمات شاعر العرب الكبير (بدوي الجبل) وقد ترك فينا قوله في الطفولة:
ويا رب من أجل الطفولة وحدها
افض بركات السلم شرقا ومغربا
وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها
إذا غردت في موحش الرمل أعشبا
ويا رب حبب كل طفل فلا يرى
وإن لج في الاعنات.. وجهاً مقطبا
وهيئ له في كل قلب صبابة
وفي كل قلب.. مرحباً ثم مرحبا

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي