رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الهندسة الاجتماعية

ما من مجتمع إلا ويمر بتغيرات، إن لم تكن تحولات، وفي الغالب تأخذ التحولات المنحى التدريجي، إذ لا يمكن إحداث التغيير بين لحظة وأخرى وبضربة عصا سحرية، فسنن الله في هذا الكون أن يأخذ كل شيء الوقت الذي يستحقه، فالحمل يأخذ أشهرا، حتى يكتمل المولود، وبالمثل أثمار الأشجار تأخذ وقتا لتنضج، وتكون صالحة للأكل، وهذه القاعدة تنطبق على الدول والمجتمعات، وقد أدرك السياسيون، والمخططون الاجتماعيون هذه الحقيقة عند التفكير في إجراء تغيير، أو تحول اجتماعي، وأخذوه في الاعتبار مدركين أنه ليس من السهولة بمكان إحداث التغيير جرعة واحدة، خاصة أن التغيير قد يتعارض مع مفاهيم ومدركات أو مسلمات قد تكون صحيحة، أو يعتقد أنها كذلك، أو ربما تتعارض مع مصالح البعض الذين يرون في التغيير مصدر خطر يهدد مصالحهم.
الهندسة الاجتماعية مصطلح شائع لدى علماء الاجتماع، وفي كتبهم، وتعني الهندسة الاجتماعية إعادة بناء المجتمع في طريقة التفكير والقيم والسلوك والأنظمة والثقافة العامة، بهدف جعل الناس أو معظمهم يتكيفون، ويقبلون واقعا ما يخدم فردا أو جماعة، وفي التاريخ أحداث من هذا القبيل، إلا أن الأساليب تختلف من فترة لأخرى ومن مجتمع إلى آخر حسب ظروف المجتمع والمكونات التي يرتكز عليها.
من الأساليب التي تعمد إليها بعض الأنظمة السياسية أسلوب القوة، وفرض النظام الاجتماعي الجديد عن طريق القسر والإكراه، وهذا ما حدث بعد الثورة البلشفية، حيث أصبحت القوة والقهر أسلوبا معتمدا لفرض النظام الاشتراكي، وإجبار الناس على تقبله بتفاصيله كافة، وأوجدت لهذا الغرض الأنظمة والآليات العقابية لكل من يخالف الوضع الجديد أو يبدي أي امتعاض، ولذا قتل الآلاف من الناس، وأودع البعض السجون، وهجروا من مواطنهم الأصلية عقابا لكل من يبدي أي تذمر، أو عدم قبول للنظام الاجتماعي الجديد، كما حدث للمسلمين عندما هجروا إلى سيبيريا.
وتكرر المشهد في الصين حين فرض ماو تسي تونج النظام الاشتراكي بالحديد والنار والتصفيات لكل الخصوم، حتى لو كانت الخصومة فكرية وليست عسكرية أو تنظيمية. ومع الأسف ما حدث في روسيا، والصين تكرر في بعض الدول العربية، والإسلامية، حين جاء العسكر بانقلاباتهم، وحاولوا فرض أيديولوجيات مستوردة بالقوة والتصفية والسحل والسجن. ومن يقرأ تاريخ منطقتنا خلال العقود الماضية يجد فيها المآسي والكوارث بحق المجتمعات والأوطان، ولا أدل على خيبات الهندسة الاجتماعية بهذه الصورة إلا ما حل بليبيا والعراق ومصر، حيث النتيجة الفقر والتراجع التنموي خلال فترات العسكر ومن جاء بعدهم نظرا لعدم اختلاف المنهج والطريقة القائمة على الأوامر الخالية من الحوار والإقناع.
الأسلوب الثاني من أساليب الهندسة الاجتماعية أسلوب التغيير بالتدريج، أي أسلوب الجرعات الخفيفة الذي يحقق الأهداف مهما كان اختلافها مع مرتكزات المجتمع، ومقوماته الحضارية وذلك بشكل متدرج، وإن أخذ وقتا طويلا، وهذا الأسلوب يعتمد على جس النبض الاجتماعي، حيث توضع بذرة التغيير المستهدف في نطاق ضيق، إما في مؤسسة أو احتفال أو خلال مناسبة، وفي هذا مجال لجس النبض، فإن حدثت ردود فعل قوية عوقب من قام بالفعل، أو وبخ أو فسر الأمر باعتباره خطأ، أو أمرا عارضا غير مقصود وذلك لامتصاص الغضب.
الأسلوب الثالث أسلوب ناعم وغير مباشر يحدث التغيير دون رفض أو مقاومة تذكر، ولا يأخذ الصفة الرسمية، ويتم هذا من خلال وسائل الإعلام بالمسلسلات، والأفلام، والبرامج الحوارية والقصص، فما يطرح فيها، خاصة ممن يمثلون القدوة، والنموذج يكون تأثيره قويا في خلخلة القيم وتغيير الأفكار وهز القناعات وتغيير الاتجاهات، حتى تتم صياغة العقول والأنفس، بما يتفق مع برنامج التغيير المطروح ليأتي السلوك والممارسة وفق ذلك. وقد تمكنت دول الاستعمار من غرس قيمها وأنماط حياتها ونظمها من خلال إيجاد أفراد من أبناء جلدة المجتمع تدافع عن المستعمر، كما في الجزائر حيث الطابور المتفرنس يدافع عن فرنسا وقيمها ولغتها ويرى أن اللغة الفرنسية يجب أن تكون اللغة الرسمية للبلاد، ولذا حتى وبعد رحيل المستعمر توجد صحف تصدر بالفرنسية، ونواد اجتماعية، وأنشطة تستهدف تغيير العقول والأفكار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي