الحرب على الملاذات الضريبية
تبقى الملاذات الضريبية الآمنة، التي تحتوي على معظم "الموبقات" المالية، الهدف الأول بالنسبة للحكومات التي قررت بالفعل وضع حد لطبيعة هذه الملاذات. وهذا الحراك لا يأتي فقط بعد الكشف عن "وثائق بنما" التي احتوت على فضائح ضريبية تاريخية، وإنما انطلق في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، التي بدورها دفعت الحكومات إلى سن تشريعات جديدة لحماية الاقتصادات الوطنية من التأثيرات السلبية والهجمات الاقتصادية الخطيرة، الأمر الذي نال من وضعية الملاذات الضريبية الآمنة. وهذه الأخيرة لم تكن غير شرعية بالنسبة لعديد من بلدان العالم، وخصوصا الغربية منها. ولكن الضغوط المالية دفعت إلى فتح ملفاتها، ولا سيما بعد أن ثبت أنها لا تتعلق فقط بالتهرب الضريبي، بل تشمل أيضا غسل الأموال والتجارة غير المشروعة في مختلف القطاعات المشينة.
تنعقد في لندن اليوم (الخميس) قمة دولية لمكافحة الفساد، تهدف إلى تكثيف الجهود العالمية لمحاربة هذه الآفة في شتى مناحي الحياة. وهي قمة مهمة بالفعل، لأنها تشتمل على مجموعة كبيرة من التقارير والبحوث حول الفساد في العالم، عملت عليها منظمات ومؤسسات غير حكومية لفترات طويلة، كما أنها تأتي في الوقت المناسب. وهذا الوقت هو ارتفاع عدد الحكومات حول العالم العازمة فعلا على وضع حد للفساد، وبالتالي استهداف الملاذات الضريبية الآمنة. ولندن مكان مثالي لمثل هذه القمة، لأن بريطانيا ترتبط بصورة رسمية بعدد من هذه الملاذات التي أخذت شكل أشباه دول. وتوفر أيضا دعما قانونيا لها، على غرار الحكومات الغربية الأخرى التي تعترف بوجود وعمل الشركات والمصارف المسجلة في هذه الملاذات. وبعيدا عما قاله رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون للملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا ونقلته سماعات الصحافيين خلسة، قال: (إن بعض المشاركين في القمة هم من كبار الفاسدين)، يبدو واضحا أن دورا أكبر للمنظمات غير الحكومية المكافحة للفساد يظهر في القمة وفي المشهد العام، ليس فقط من خلال سلسلة التقارير والبحوث المهمة بالفعل، بل أيضا تجاه تحركها لإخراج ما يعرف بـ "الإعلان العالمي لمحابة الفساد"، وهو مشابه من حيث الهيكلية للإعلان العالمي للبيئة ومكافحة الفقر وغير ذلك من الإعلانات الدولية الكبرى. وهذا يعني أيضا أن الدائرة ستضيق أكثر حول الفاسدين في كل مكان، ولاسيما أولئك الذين وجدوا في الملاذات الضريبية مساحة آمنة لأموالهم القذرة. وترتفع أهمية الحراك غير الحكومي أيضا، بانضمام ما يقرب من 300 مختص اقتصادي إلى الحملة ضد الفساد، الذين طالبوا بدورهم قبل ساعات من انعقاد القمة بوضع نهاية للملاذات الضريبية.
من الواضح أن مؤسسات المجتمع المدني والباحثين والأكاديميين حققت قفزات نوعية في هذا المجال في السنوات القليلة الماضية، وقد زادت من حجم تأثيرها في أعقاب الأزمة الاقتصادية، التي أوجدت معايير أخلاقية جديدة لحماية الاقتصاد، وفي الواقع للوصول إلى الدخل المالي الحقيقي لكل بلدان العالم. وتضييق الخناق على الملاذات الضريبية، سيؤدي مباشرة إلى تراجع معدلات الفساد على الصعيد المحلي في كل البلدان دون استثناء. واللافت أيضا، أن رئيس الوزراء البريطاني، أبدى تجاوبا كبيرا من الدعوات المشار إليها، باعتباره رئيسا لقمة مكافحة الفساد، وهذا يؤكد مجددا أن الأمور بعد القمة حول الملاذات الضريبية لا تكون كما هي قبلها.
هناك اتفاقيات عالمية ستتم سواء في القمة أو بعدها، وهي اتفاقيات جديدة في معاييرها وأهدافها، ما سيضيف مزيدا من القوة على الحراك المناهض للفساد بما في ذلك التهرب الضريبي الذي يعتبر في غالبية بلدان العالم نوعا من أنواع الجرائم. وكانت منظمة "أوكسفام" الخيرية البريطانية واضحة، عندما أعلنت، أن وجود الملاذات الضريبية نفسها لا يضيف شيئا إلى الثروة أو الرفاهية العالمية. في الواقع يأخذ من حصة مجموعات من البشر تعيش ظلما وقهرا مقصودين.