واحة الاستقرار

واحة الاستقرار

أشارت بعض وكالات الأنباء أخيرا إلى أن منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك"، التي ستجتمع الشهر المقبل، تواجه موقفا عصيبا. فإلى جانب تقلبات السوق والضغوط عليها من قبل المستهلكين بقيادة الوكالة الدولية للطاقة لضخ المزيد من الإمدادات تحسبا لحدوث شح في السوق، فإن ثلث الوزراء الذين سيحضرون الاجتماع إما تولوا مناصبهم لأول مرة أو هناك من ينوب عن الوزير الأصلي لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية في بعض البلدان، وتمت الإشارة إلى كل من: إيران، الكويت، ونيجيريا.
ورغم ذلك، فإن هناك حالة من الاطمئنان، لأن السوق في نهاية الأمر تديرها جهة واحدة تتمتع بالاستقرار والثبات: السعودية، وهو استقرار يطول السياسات والمؤسسات التي تضع وتنفذ هذه السياسات والشخصيات التي هي وراء هذا كله، مستندة إلى تراث ثرّ من الخبرة. ويكفي معرفة حقيقة أن المهندس علي النعيمي وزير النفط الحالي بدأ عمله في شركة أرامكو وعمره 11 عاما، تشرّب خلالها كل تفاصيل الصناعة النفطية، بداية بالبعد الأكاديمي إلى جانب التجربة العملية، سواء على مستوى الصناعة التنفيذي أو البعد السياسي الذي يلازم الصناعة النفطية كظلها وأعطاها ذلك البعد الاستراتيجي.
على أن الأهم من ذلك تجربة العقود الثلاث الماضية بتقلباتها العديدة، من بروز منظمة "أوبك" قوة اقتصادية يحسب لها حساب على الساحة وحمل لواء الدعوة إلى نظام اقتصادي عالمي جديد، لأنها الوحيدة التي تمكنت من فرض رؤيتها فيما يتعلق بالأسعار للمادة الخام التي تبيعها للأسواق العالمية.
لكن للتجربة جانبها الآخر سنوات النشوة التي قادت إلى قفزات متتاليات في الأسعار استشعرت السعودية ومبكرا خطرها عليها كمنتج لها قدرات تصديرية واحتياطيات ضخمة، الأمر الذي يجعلها عمليا تفضل أن يظل النفط مصدرا رئيسيا للطاقة إلى ما شاء الله. المكانة التي اكتسبتها "أوبك" في عقد السبعينيات دفعتها إلى السيطرة الكلية على مفاصل صناعتها النفطية عبر عمليات تأميم أو مشاركة، ثم جاء عقد الثمانينيات وتراجع الطلب ونمو الإمدادات من خارج المنظمة، الأمر الذي دفعها إلى خفض سعرها الرسمي لأول مرة والاستمرار فيما بعد لأكثر من عقد من الزمان، وهي تستهدف سعرا للبرميل لا تتمكن من الوصول إليه.
في كل هذه التقلبات، سواء أن الوضع يتعلق بالمزيد من الإمدادات للسوق أو خفض الإنتاج دعما للأسعار، كانت أنظار المنتجين والمستهلكين وأركان الصناعة بصورة عامة تتجه تلقائيا إلى السعودية. وقبل أكثر من ثلاث سنوات استضاف الرئيس الأمريكي جورج بوش ولي العهد وقتها الأمير عبد الله بن عبد العزيز في مزرعته في كرافورد ـ تكساس، وكان الموضوع الرئيس المطروح البحث في تفاصيل برامج توسعة الطاقة الإنتاجية في الصناعة النفطية السعودية. ففي أوقات الشح والطلب المتنامي يبقى من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى الرياض، وهذا ليس بالاحتمال النظري، وإنما هو واقع يتلخص في أن معظم الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى "أوبك" أصبحت تتركز في السعودية.
وهذه الوضعية المميزة لم تأت من فراغ، وإنما هي نتاج عملي لمزاوجة بين الموارد الطبيعية والسياسات التي جعلت استغلالها بمرونة من خلال توازن دقيق بين المصلحة الوطنية والمصلحة العامة بالنسبة للسوق النفطية. فالسعودية هي صاحبة أكبر احتياطي نفطي معروف، وهي أكبر منتج ومصدر، وصاحبة أكبر طاقة إنتاجية فائضة، وهذه مراتب تتطلب رؤية ثاقبة وقدرة على التنفيذ ومقدرة على تحمل أعباء هذه السياسات. فمثلا إنشاء خط أنابيب الشرق إلى الغرب الذي يوفر منفذا ثانيا للتصدير وتطوير المرافق الملائمة على ساحل البحر الأحمر بطاقة تصل إلى خمسة ملايين برميل يوميا، ورفع الطاقة الإنتاجية المستدامة تشكلان نموذجين لهذا العبء، إذ إن تنفيذهما وعدم استغلال طاقتهما بصورة مباشرة وكلية يجعلهما عبئا ماليا لا شك فيه، لكنهما في الوقت ذاته يمثلان ضرورة لا غنى عنها من باب توفير قاعدة أمان يمكن الاستناد عليها.
والسعودية في واقع الأمر واحة استقرار في منطقة مضطربة سياسيا واقتصاديا. فالسياسة النفطية لم تأت من فراغ، وإنما هي منظومة متكاملة في نسيج سياسي واستراتيجي تمت تجربته مرة إثر أخرى، ولهذا ستظل أعين الصناعة النفطية شاخصة نحو الرياض.

[email protected]

الأكثر قراءة