إنتاجية الإنسان .. بين التمكين والإعاقة
تتمتع "إنتاجية الإنسان" بأهمية كبيرة، فهي "ثروة متجددة" وغير ناضبة، طالما كان هناك إنسان يقدمها، وآخرون يرغبون فيها. إنها إنتاجية "ثروة طبيعية"، بل لعل هذه الثروة أهم الثروات الطبيعية التي خلقها الله ــ سبحانه وتعالى ـــ، فليست هذه الثروة كثروة النفط وثروة المناجم قابعة في باطن الأرض، بل هي "ثروة حية" تفكر وتعمل لتنتج وتعطي. ويقول فيها بول كريجمان أحد الحاصلين على جائزة نوبل المعاصرين "إن قدرة أي أمة على تحسين مستوى معيشتها مع الزمن يرتبط بشكل شبه كلي بقدرتها على رفع إنتاجية الفرد العامل".
توصف إنتاجية الإنسان بأنها مصدر تنمية الأمم ومحرك رفاهيتها. وترتبط بتعبيرات تحمل معاني مهمة. بين هذه التعبيرات تعبير "التفكير والعمل". يقول جوهان فون جوث أحد كتَّاب القرن الـ 19 "التفكير سهل، والعمل أكثر صعوبة، والعمل المرتبط بالتفكير هو الأصعب". المستخلص هنا أن العمل المهم يجب أن يقترن بالتفكير، أي "بالإبداع والابتكار" ففي ذلك تكمن إمكانات "الثروة البشرية". ونحن أمة "اقرأ" تعلمنا ذلك من ديننا الحنيف قبل الجميع، تعلمنا تميز "أولي الألباب"، وتعلمنا أن "من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، وتعلمنا أيضا "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
ومن التعبيرات المهمة أيضا المرتبطة بإنتاجية الإنسان "الفاعلية" بمعنى تقديم المنتج بالشكل المطلوب، أو تبعا لما وضع له التفكير المتمثل في التصميم من صفات. ومنها أيضا "الكفاءة"، بمعنى أن تفوق القيمة التي يقدمها المنتج قيمة تكاليف إنتاجه. ثم هناك "الرشاقة" والابتعاد عن مسببات الترهل في أداء العمل، بمعنى أن يتم الإنتاج بسرعة ودون تأخير. وهناك أيضا "القدرة على المنافسة"، أي أن يكون المنتج متفوقا على ما يماثله، أو متفردا لا مثيل له. وتأتي بعد ذلك "الجودة" التي يفترض أن تحمل كل المعاني السابقة. ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى أن المنتج المقصود فيما سبق ليس بالضرورة جهازا ماديا، بل ربما يكون خدمة يجري تقديمها كالخدمات الصحية وغيرها.
وتتوج "الوسائل" التي تعزز الإنتاجية التعبيرات المهمة المرتبطة بها. وتنقسم هذه الوسائل إلى أربعة أقسام رئيسة. يرتبط القسم الأول منها "بالتكوين الإداري ومنهجية إجراءات العمل" الذي يتم على أساسه الإنتاج. ولعل أبرز الأمثلة في هذا المجال تحول عمليات تصنيع المنتجات المادية، منذ بدايات القرن الـ 20، إلى منهجية "خط الإنتاج" بعد استكمال عناصر المنتج، ووضعها ضمن خط عمل متسلسل يعمل على تجميعها، لتحقيق الفاعلية والكفاءة والقدرة على المنافسة. وقد تعززت هذه المنهجية بكثير من الوسائل التقنية الحديثة كـ "الروبوت" الذي يقوم بأعمال ميكانيكية من خلال تحكم إلكتروني، ولا يزال.
"التقنية الحديثة التي تفعل الإنتاجية" هي القسم الثاني من أقسام "الوسائل". ولا تهتم هذه الوسائل بالتصنيع فقط، بل تمتد إلى إنتاج الخدمات أيضا. ولعلنا بتنا جميعا مستفيدين من الخدمات الإلكترونية الحكومية والخدمات الإلكترونية المصرفية والخدمات الإلكترونية التجارية التي تقدم إلينا إلكترونيا أينما كنا، سواء في المنزل أو في مكان العمل، أو كنا نتجول في أي مكان آخر.
ونأتي إلى القسم الثالث من أقسام الوسائل التي تعزز الإنتاجية، وهو "القسم الرئيس الحي"، القسم المرتبط "بالإنسان". ويهتم هذا القسم بإمكانات الفرد ومشاعره، ويسعى إلى تحفيزه، وإطلاق طاقاته الكامنة في الإبداع والابتكار والعطاء الفكري، وفي العمل والإنجاز وتقديم منتجات متميزة جديدة. إنه القسم الذي يمكن أن يقود إلى التفوق في المنافسة. فالإنسان في أي أمة من الأمم هو ثروتها الحقيقية التي يجب التنقيب عنها والاستفادة منها.
ونصل إلى القسم الرابع وهو الخاص "ببيئة العمل" التي يمكن أن تفعّل كل الأقسام السابقة، والتي يمكن أن تعوقها بدرجة صغيرة كانت أو كبيرة. ويقول بيتر دركر أحد أبرز مختصي الإدارة في القرن الـ 20"، في هذا المجال، التالي: "ليست الإنتاجية مسؤولية تقع على العاملين، بل إنها مسؤولية الإدارة". والمقصود هنا أن "بيئة العمل" التي توفرها الإدارة للإنسان هي التي تمكن الإنسان من إطلاق قدراته على العطاء.
يبين كل ما سبق جوانب متعددة الأبعاد من "ضرورات تمكين إنتاجية الإنسان". ولعله يبرز هنا تساؤل مهم: هل هناك استجابة متكاملة الأبعاد لمثل هذه الضرورات من مختلف المؤسسات والشركات؟ تأتي الاستجابة عن هذا التساؤل من أحد استشاريي مجموعة بوستون الاستشارية، وهو "إيف موريو"، حيث يقول إن "الإنتاجية تعاني الضعف على نطاق واسع"، ودليله على ذلك هو عمله الاستشاري مع أكثر من "500 شركة" تحتاج جميعها إلى تطوير إنتاجيتها. ويرى في هذا المجال أن هناك مشكلتين مهمتين تعوقان الإنتاجية.
ترتبط المشكلة الأولى "بضعف التعاون بين العاملين"، لأسباب تتعلق بالبيئة الإدارية أو بالعلاقات الشخصية أو عوامل أخرى. فهذا الضعف يؤدي إلى تركيز كل فرد عامل في أي مؤسسة على مسؤوليته عن عمله المحدد بوظيفته، وعدم مبالاته بأعمال الآخرين، وعدم تبنيه المسؤولية الجماعية عن إنتاجية المؤسسة، وعدم سعيه إلى تقديم المساعدة للآخرين من أجلها، أو ربما طلب المساعدة من الآخرين من أجلها أيضا.
أما المشكلة الثانية فتتعلق "بالضوابط الكثيرة غير الضرورية" التي تحيط بالإنسان في أدائه لعمله. ويرى "موريو" أن كثيرا من هذه الضوابط توضع بحسن النية في إطار السعي إلى تطوير جودة الإنتاج. ومن أمثلة هذه الضوابط غير الضرورية: كثرة "القواعد والمعايير التنظيمية" دون الحاجة الفعلية إليها؛ وكثرة "التقارير المطولة" التي تتضمن تفاصيل متكررة؛ وكثرة "اللجان" دون مبررات كافية؛ وكثرة "الاجتماعات" لمناقشة تفاصيل غير أساسية؛ و"المركزية" المبالغ فيها في اتخاذ القرارات؛ وضوابط أخرى يمكن أن تعوق أداء المهمات الأساسية وتحد من "الإنتاجية" وتحقيق الأهداف المنشودة.
لا شك أن "تطوير إنتاجية الإنسان"، في مختلف المجالات، مطلوب دائما، في كل زمان ومكان، وعلى المستويات كافة، من أجل مؤسسات وشركات ناجحة، ومجتمع منتج وفاعل. وتأتي الحاجة إلى ذلك مع تزايد المنافسة بين المؤسسات، وبين الأمم أيضا، وكذلك مع تزايد الوسائل وتطور التقنية المساندة نحو آفاق غير محدودة. نريد ترابطا وثيقا بين "الأهداف ومهمات العمل والإنتاج"؛ نريد أن نتبع أفضل "الأساليب والوسائل الإدارية المناسبة" التي تعزز العمل وتزيل العوائق؛ نريد الاهتمام "بالتقنية الحديثة المساندة"؛ نريد "الإنسان الواعي" و"البيئة المحفزة" للتعاون والمسؤولية الجماعية"؛ نريد أن تتمتع أعمالنا "بالفاعلية والكفاءة والرشاقة"؛ نريد "تطورا مطردا نسابق فيه الأمم".