التعليم العالي .. مصدر من مصادر الدخل الوطني
في كل حقب التاريخ يعتبر التعليم العالي في الدول المتقدمة موردا من موارد الدولة، حيث يتسابق الطلاب من كل أنحاء العالم على الجامعات التي أصبحت عند الموهوبين كالماركات، ونذكر ـــ على سبيل المثال ـــ أن شهرة جامعات مثل كامبردج وأكسفورد في بريطانيا، وهارفارد وييل واستانفورد وبيركلي في الولايات المتحدة من الجامعات المقصودة لدى شريحة كبيرة من موهوبي العالم.
وأمام الإقبال الكثيف على التعليم العالي أصبح التعليم العالي أحد الموارد المهمة في الولايات المتحدة وفي بريطانيا وفي أستراليا، ولذلك حينما تشددت الحكومة الأمريكية والحكومة البريطانية في منح التأشيرات للطلاب الأجانب بعد كارثة 9/11 وطالبت الجامعات الأمريكية والبريطانية حكومتيها بتخفيف شروط القدوم للالتحاق بالتعليم العالي حتى لا تتعرض الجامعات لانتكاسات مالية تقعدها عن أداء رسالتها التعليمية والتنويرية.
ونستطيع القول إن التعليم الجامعي في السعودية في هذه الأيام يعيش مرحلة من أهم مراحل تاريخه المديد، ونلاحظ جميعا أن عمليات بناء واسعة للكليات والمنشآت الجامعية في كل الجامعات السعودية، وكنت أتمنى أن تأتى عمليات الإنشاء والتشييد ضمن خطة متكاملة في المنشآت والمناهج معا هدفها استخدام التعليم الجامعي كوسيلة من وسائل استثمار الموارد الجامعية.
إن كثيرا من الدول المتقدمة تستخدم التعليم الجامعي كوعاء من أوعية الاستثمار، وتسعى إلى جذب الطلاب للدراسة الجامعية في جامعاتها العريقة مقابل رسوم تعليمية عالية نسبيا ومصاريف يومية وشهرية يصرفها الطلاب إبان السنوات التي يقضونها في التحصيل العلمي.
ونذكر على سبيل المثال أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وكندا ثم انضمت إليهم أخيرا أستراليا ترى أن التعليم الجامعي مصدرا من مصادر الدخل القومي، وتسعى هذه الدول إلى تطوير وتحسين الجامعات حتى تستقطب مزيدا من الطلاب الأجانب المبتعثين للدراسة في جامعاتها المتقدمة.
أكثر من هذا، فقد اتخذت الجامعات الأسترالية مجموعة من الإجراءات المقننة، التي تحفز الطلاب السعوديين لتغيير وجهتهم والالتحاق بالجامعات الأسترالية، كما أن الجامعات البريطانية لم تنتظر طويلا فأصدرت تعليمات جديدة لتسهيل التحاق الطلاب السعوديين بالجامعات البريطانية.
إن الدول المتقدمة لا تنظر إلى التعليم الجامعي من باب الاستثمار الاقتصادي فحسب، وإنما تنظر إليه لتحقيق مغانم سياسية وثقافية أيضا وبالذات مع الدول التي لها مصالح استراتيجية مشتركة. وفي زياراتي المتكررة للولايات المتحدة وبريطانيا لاحظت أن الجامعات البريطانية تتسابق على بناء مدن جامعية تراعى في تنفيذها كل شروط البيئة النظيفة، ولقد زرت أخيرا عدة جامعات في بريطانيا ومنها جامعة نوتنجهام المرموقة، ولاحظت أن جامعة نوتنجهام بنت "كامبس" جديد طبقت في تنفيذه كل شروط البيئة النظيفة، سواء في مواد البناء وفي تصميم الفراغات حتى ملاحق التشييدات، كما أن الجامعة استخدمت الطاقة الشمسية على نطاق واسع في الإضاءة، ولم تستخدم البترول ومشتقاته، لأنه يلحق أضرارا بالبيئة، ويبدو أن الجامعة في الدول المتقدمة وهي بصدد تنفيذ مشاريعها الجديدة تريد أن تثبت بالأدلة والبراهين الواقعية أنها تقرن النظرية بالتطبيق وإن ما يدرسه الطلاب من نظريات علمية تطبقه الجامعة على أرض الواقع في مشاريعها التطويرية.
وتقدر الحكومة البريطانية أن عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في بريطانيا بـ 400 ألف طالب وطالبة، وتقدر قيمة الإيرادات السنوية من التعليم للأجانب بنحو 15 مليار جنيه إسترلينى، وتسعى الحكومة البريطانية إلى تحقيق زيادة ملحوظة في عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في جامعاتها في السنوات القادمة، وتنظر الحكومة البريطانية إلى الطلاب الأجانب على أنهم مصدر قيمة دائمة، فهم يأخذون معهم صداقات وولاءات إلى أوطانهم يستفاد منها في المستقبل على شكل روابط تجارية وثقافية ودبلوماسية، بمعنى أن استقطاب طلاب أكثر اليوم يعني علاقات أقوى في المستقبل، ولذلك فإن بريطانيا تسعى دائما إلى كسب الجيل التالي من صناع الرأي في دول العالم الثالث.
ومن ناحيتها، فإن أستراليا تحرص على كسب حصة في سوق التعليم الدولي وأعلنت الحكومة الأسترالية تحريرا شاملا لقواعد التأشيرات الخاصة بالطلاب الأجانب. ونحن في السعودية لدينا أكثر من 25 جامعة وعشرات الكليات الفنية التي تعنى بالتعليم الفني، وأزعم أن الطلب على التعليم الجامعي بكل مستوياته وتخصصاته عال جدا في المنطقة العربية.
وإذا كان الطلب على التعليم الجامعي عاليا على مستوى الدول العربية، فإنه على مستوى دول الخليج أكثر من ذلك بكثير، وهذه الدول تضع السعودية كخيار أول، ولذلك أمام الجامعات السعودية فرص لكي تجذب الطلاب الخليجيين، ونحن في أمس الحاجة إلى بناء الولاءات في منطقة الخليج، لأن الطرح الأجنبي وبالذات الفارسي الذي يطرح الآن على الصعيدين السياسي والثقافي في منطقة الخليج يجب أن يقلقنا، ويجب أن يحفزنا إلى تصميم سياسات تستهدف بناء الولاءات مع الأجيال المقبلة في دول الخليج عن طريق استقطاب الطلاب الخليجيين في الجامعات السعودية.
ولكن من المآخذ التي تؤخذ على جامعاتنا هي قضية المناهج، حتى نجذب الطلاب الأجانب إلى جامعاتنا، فإنه يجب ألا نحشر المناهج بدروس لا تتوافق مع حاجات الطلاب الأجانب، كما يجب ألا نمنع ـــ دون مبرر علمي ـــ تدريس علوم المنطق والفلسفة وغيرها من العلوم بدعاوى وتفسيرات غير علمية، وهو تدخل غريب في علوم تدرس في كل جامعات العالم، يجب أن نترك المقررات العلمية لحاجات الإنسان واحتياجاته العلمية ولا نخلطها بمبررات شخصية ومذهبية ليس لها سند علمي مقبول، لأن تقرير المواد العلمية لا يرتهن إلى مبررات غير علمية، وإنما يرتهن إلى الاحتياج العلمي المتخصص.
وما عدا قضية المناهج، فإن جامعاتنا بإمكاناتها الزاخرة حرية بأن تتقدم لاستقبال قوافل الطلاب من كل أنحاء العالم وبالذات من دول الخليج التي نرتبط معها بكثير من المصالح الاستراتيجية المشتركة.