قريب النجوى «1»
حين يقترب الإنسان من الله تكون حياته أفضل، وتكون حياة من حوله جميلة به، لأن الله يفيض على المقربين منه بصفات جماله، ويسبغ عليهم من جلاله، بقدر مقدر، بحسب درجة القرب، وعمق صفاء الذات، وطهر القلب.
بتنا بحاجة حقيقية لحضور الله في قلوبنا، بمعناه الواعي والبصير، الذي يرفعنا للكمال كله، والطهر بتمامه، والقرب من أنفسنا أكثر وأعمق، إننا جميعا تائهون وفقراء ومظلمون بظلمة غالبة مستبدة، نتلمس السبيل مع عجز الوسيلة، وضعف القلب، وشتات الإدراك، حتى أن كثيرا منا يموت قبل أن يعيش لحظة حقيقية واحدة مع الله. وفي أعين الراحلين منا كانت رؤية الغيب الذي تجلى له أول شفق منه، وأبصر أول خيوط النور فيه، يحضر ذاك المعنى المتفرد الذي لا يتاح لأحد تكراره، أو العودة إليه "يَقول يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي.." (24) الفجر. لا نعلم هل هي الحياة التي انسابت من بين أصابعه، كغرفة ماء، أم هي الحياة الحقيقية التي يشرف الآن على أول منازلها، ونزول عين اليقين بحقيقتها!
كل شيء يغرقنا فيه، حتى أنفسنا إن تردت، أو ضعفت أو طمعت، أو تباعدت! "وَلا تَكونوا كَالَّذِينَ نَسوا اللَّهَ فَأَنْسَاهمْ أَنْفسَهمْ" (19) الحشر. هنا تحدث أعظم خسارة يمكن تصورها في الحياة كلها، هي خسارة الإنسان لنفسه، وفقدها هو السقوط في ــ التيه الكبير ــ الحركة في كل الاتجاهات ولكن لا تصل إلى مكان، وتطوي مسافة عمرك، ولا تبلغ متعة مكتملة، أو تنتهي إلى نزل ينزل فيه قلبك، وتنيخ على ترابه طهر نفسك فتستريح، فالقلب شره، والنفس شروب.
سعي مجنون لتملك كل شيء، وسعار الرغائب لا يهدأ، بعمق غربة الروح، يشيع فوضى الحس، وتطغى النزعة المادية، وهي شديدة الضراوة، وشديدة الرياء.
الاقتراب من الله يمثل وحده يقين الجمال المستقر، ووحده البعد عنه، يعني التيه، وهو الذي أشاع فينا كل هذا القدر الكبير من القسوة، والنأي عن إنسانيتنا! تحول بعضنا إلى ذاك الكائن غير التام في إنسانيته، والمعاق في أخلاقه، وعطب نفسه، وموت ضميره وقلبه! على مسافة يتم موجع، وشيخوخة متهدمة بطلب قوتها لتبلغ الكفاف، فلا تستطيع ولا تقدر عليه، ومع ضراعة صادقة لأرملة تبتغي أرغفة خبز عيالها، كان منا من يحرق مال الله الذي رزقه إياه، ويجعله علفا لبهيمة الأنعام، كفرا بنعمة الله، وطغيانا على نعمته، وتحقيرا للسائل والمحروم والضعفاء الفقراء من خلقه!
هي صورة إنسان لم يخرج من التيه، ولم يتعاف من قسوة الباطن، ولم يستنير باطنه بربه، هي وجوه رجال على جبينها خذلان الله لها، وغضبه عليها! إنهم ليسوا بحاجة إلى عقوبة حاكم أو عصاية سلطان! إن ما هم عليه، وفضحهم أنفسهم وهم جيف بليدة الحس، ميتة الضمير، والشعور، مع عمى القلب.. هو أقسى عقوبة من الممكن أن ينالها إنسان بطول حياته كلها!
اتركوهم فإن وعيدا لهم قريب الوقوع بهم، ليس ببعيد عنهم، "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبّكمْ لَئِنْ شَكَرْتمْ لأزِيدَنَّكمْۖ وَلَئِنْ كَفَرْتمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (7) إبراهيم. فهل عقوبتنا ستكون أشد من عقاب الله الذي توعدهم به!
كثير مما نكابده، ونعاني مرارته، له علة واحدة غير متعددة، هي الفراغ الروحي والبعد عن الله، في هذا الضجيج الذي يغرقنا في كل شيء، ويجمعنا على كل شيء، إلا هو سبحانه.. وعند وحشة الروح تظهر في النفس أراذل صفاتها "ثمَّ رَدَدْنَاه أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (5) التين. هكذا تمت كلمة ربك. صدقا وعدلا.