صندوق استثماري بتريليوني دولار .. قاعدة ارتكاز أساسية للاقتصاد
لم يعد الاقتصاد بعد "كنز" كما كان قبله، هذه مقولة استمرت لعقود من القرن العشرين، لقد هزت نظرية "كنز" أركان الاقتصاد الكلاسيكي ليس لأنها قوضت كثيرا من معقداته؛ بل لأنها أثبتت جدارة في التطبيق، ولأنها أيضا - وهذا هو الأهم - وضعت الرأسمالية في مأزق كبير، وهي تعترف بالدور السيادي للحكومات في صناعة التوازن الاقتصادي. لكن "الكنزية" وانتقاداتها التي أتت بعدها اهتزت بشدة وهي تواجه أخطر أزمة عالمية بعد الكساد العالمي وهي أزمة الرهن العقاري وما تبعها من أزمة مالية عمت أرجاء المعمورة، في تلك الفترة المحمومة جدا جربت دول العالم بقيادة الولايات المتحدة كل الحلول لتجاوز الأزمة وتحفيز الاقتصاد، وباءت كلها بالفشل، حتى وصلت الفائدة إلى المستوى الصفري ومع ذلك لم تحرك ساكنا في تحفيز الإقراض وإعادة السيولة إلى الاقتصاد، لم يكن أمام العالم سوى تجربة فريدة وهي ما اصطلح على تسميتها بالتيسير الكمي. ولتبدأ مقولة إن الاقتصاد بعد التيسير الكمي ليس كما كان قبله، والتيسير الكمي ببساطة هو أن يقوم البنك المركزي لدولة معينة بشراء سندات وقروض البنك ومؤسسات التأمين وكذلك الشركات المساهمة، خاصة سندات الخزانة لتلك الشركات، والهدف هو ضخ سيولة ضخمة مباشرة في الاقتصاد. لقد قاد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هذه التجربة العالمية بشراء عقارات وأسهم وسندات الخزانة بقيمة 2.1 تريليون دولار أمريكي، وبعد سنوات من النقد لهذه التجربة ومراقبتها أثبتت نجاحها؛ حيث تجاوزت الولايات المتحدة مشكلتها وتمكن "الفيدرالي" لاحقا من تحقيق أرباح بعد بيعه تلك الأصول التي اشتراها. لكن التيسير الكمي لم يسلم من الانتقادات، ذلك أن التجربتين الأمريكية والأوروبية في التيسير الكمي كانتا تعتمدان على قيام البنك المركزي بطباعة وإنشاء نقود جديدة ولو كانت ائتمانية، وهذا كان يعني أن المشكلة ما زلت قابعة في الاقتصاد، وإن حلت المشكلة في ظاهرها.. الأموال التي ضخت في الاقتصاد لم تكن تعكس المتانة بقدر ما تحاول الحفاظ على مستويات التضخم مرتفعة.
لقد أثبتت تجربة التيسير الكمي أهميتها لدول العالم، وإذا كانت الأزمات الاقتصادية لا مفر منها، فإن قدرة الدول على الصمود هي بحجم قدرة اقتصادها على تحمل الزيادة المفرطة في النقد الائتماني دون حصول انهيار شامل في العملة، هذا بالطبع يعتمد على قوة العملة في المقام الأول والثقة الهائلة بالحكومة. وإذا كان الدولار واليورو يرتكزان على قوة اقتصادية هائلة، فإن تجربة التيسير الكمي مع أي عملة أخرى قد تكون كارثية، ومع ذلك فإن تجربة تدخل الدولة لشراء الأصول والسندات لحماية الاقتصاد تجربة ناجحة. والسؤال الاقتصادي الضخم هو: كيف تحقق الدول توازنا بين قدرتها على شراء الأصول وأيضا المحافظة على عملة قوية؟ الإجابة تكمن في القاعدة الصلبة من الصناديق الاستثمارية والأذرع الاستثمارية الطويلة. من هذا الشرح نعني تماما الآن أهمية ما تخطط له المملكة لجعل صندوق استثماراتها العامة يفوق تريليوني دولار، وما قامت به المملكة من إجراءات هيكلية عدة خلال السنة الماضية على صندوق الاستثمارات العامة.
فالصندوق الاستثماري بما يتجاوز تريليوني دولار، سيمثل قاعدة ارتكاز أساسية للاقتصاد بخلاف النفط، فلقد كانت المملكة في سنوات سابقة قادرة على تسديد التزاماتها وتمويل ميزانيتها من خلال إيرادات النفط، لكن مع حجم الاقتصاد الحالي، فإن قدرة النفط على التمويل تتضاءل والاعتماد عليه فقط سيكون كارثيا فيما لو استمرت الميزانية الحكومية تحقق عجزا، وحتما ستتآكل السيولة المتوافرة في الاقتصاد لتسديد فوائد القروض، لكن مع وجود صناديق ضخمة تدر مبالغ هائلة، فإن قدرتنا على السداد ستكون دائما مرتفعة، ليس هذا فحسب؛ بل إن قدرتنا على استخدام التيسير الكمي، لو احتجنا إليه، ستكون استخداما آمنا مع وجود صناديق استثمارية بعملات أجنبية قادرة على الشراء، بدلا من قيام مؤسسة النقد بإنشاء نقود مباشرة وحقنها في الاقتصاد. لدينا مساحة من الوقت، وأن يتم إطلاق الصندوق وبناؤه من الآن، ونحن نمتلك احتياطيات ضخمة، ولم يزل الاقتصاد قادرا على تحمل العجز في الميزانية، لذا فإن علينا استغلال المساحة من الوقت التي منحت لنا، قبل أن يقل الإقبال على شراء سندات الحكومة، فضلا عن العقارات وسندات الشركات والمصارف المحلية.