أسعار النفط والاقتصاد .. العلاقة المعقدة
على الرغم من استمرار أسعار النفط المنخفضة منذ أكثر من عام ونصف، فإن "جرعة النشاط" التي يترقب الجميع بثها في الاقتصاد العالمي لم تتحقق بعد، وهو ما يوثقه عدد نيسان (أبريل) 2016 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي. والمفارقة في رأينا هي أن المنافع العالمية التي تحققها الأسعار المنخفضة من المرجح ألا تظهر إلا بعد انتعاش الأسعار إلى حد ما وإحراز مزيد من التقدم في التغلب على بيئة أسعار الفائدة المنخفضة حاليا في الاقتصادات المتقدمة.
وقد هبطت أسعار النفط منذ حزيران (يونيو) 2014 بنسبة تعادل 65 في المائة من قيمتها الدولارية "نحو 70 دولارا" مع تزايد بطء النمو عبر مجموعة كبيرة من البلدان. وحتى مع مراعاة ارتفاع سعر الدولار بنسبة 20 في المائة "بالقيمة الاسمية" أثناء تلك الفترة، فإن هبوط أسعار النفط بالعملة المحلية بلغ متوسطا تجاوز 60 دولارا، وهي نتيجة حار لها كثير من المراقبين، ومنهم «الصندوق»، الذين كانوا يعتقدون أن هبوط أسعار النفط سيكون تأثيره إيجابيا صافيا بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، حيث يلحق ضررا واضحا بالبلدان المصدرة، بينما يحقق للبلدان المستوردة مكاسب توازنها وتفيض. والافتراض الأساسي وراء هذا الاعتقاد هو فرق محدد في السلوك الادخاري بين البلدان المستوردة للنفط والبلدان المصدرة له: فالمستهلكون في المناطق المستوردة مثل أوروبا لديهم ميل نحو أعلى للاستهلاك من الدخل مقارنة بالمستهلكين في البلدان المصدرة مثل السعودية.
وبالطبع لم تؤيد أسواق الأسهم العالمية هذه النظرية. فعلى مدار الأشهر الستة الماضية أو يزيد، غلب على أسواق الأسهم الانخفاض مع هبوط أسعار النفط ـــ على خلاف المتوقع إذا كان انخفاض أسعار النفط يساعد الاقتصاد العالمي بشكل إجمالي. وبالفعل، لم تكن علاقة الارتباط البسيطة بين أسعار الأسهم والنفط إيجابية وحسب، بل إنها تضاعفت مقارنة بفترة سابقة بدءا من آب (أغسطس) 2014 وإن لم يصل ذلك إلى مستوى غير مسبوق".
وغالبا ما كانت دورات التغير الحاد السابقة في أسعار النفط تترك آثارا واضحة معاكسة للاتجاهات الدورية – فيتباطأ النمو العالمي بعد الزيادات الكبيرة، على سبيل المثال. فهل يختلف الأمر هذه المرة؟ هناك عدة عوامل تؤثر في العلاقة بين أسعار النفط والنمو، لكننا نجد فارقا كبيرا بين الحالة الراهنة وسابقاتها، وهو أن أسعار الفائدة الاسمية في كثير من الاقتصادات المتقدمة أصبحت صفرية أو قريبة من الصفر. ومن المشكلات الواضحة في التنبؤ بآثار تحركات أسعار النفط هي أن هبوط السعر العالمي يمكن أن ينشأ إما من زيادة العرض العالمي أو نقص الطلب العالمي. لكننا في الحالة الأخيرة نتوقع أن نرى نمطا مطابقا لما حدث في أرباع العام الأخيرة ـــ هبوط في الأسعار يصحبه تباطؤ في النمو العالمي، مع قيام أسعار النفط المنخفضة بتوفير هامش للوقاية من تباطؤ النمو، وإن لم يكن من المرجح أن تتصدى له. ولا شك أن تباطؤ الطلب جزء من المشكلة، لكن الأدلة تشير إلى أن زيادة العرض مساوية في الأهمية إن لم تكن أهم. وبشكل أشمل، كان عرض النفط قويا بسبب الإنتاج المرتفع غير المسبوق من أعضاء منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" الذي يشمل الآن الصادرات من إيران، إضافة إلى بعض البلدان غير الأعضاء في المنظمة. كذلك أبدى عرض النفط الصخري من الولايات المتحدة صمودا مثيرا للدهشة في البداية أمام انخفاض الأسعار. وكيف أن إنتاج "أوبك" استمر في الزيادة أخيرا مع هبوط الأسعار، على خلاف الدورات السابقة. وإضافة إلى ذلك، فالولايات المتحدة، وهي بلد مستورد صاف للنفط يتسم الطلب فيها بدرجة من القوة، يبدو أن رخص سعر النفط أعطى حافزا كبيرا للنمو. وتشير دراسات الاقتصاد القياسي ودراسات أخرى إلى أن تباطؤ الطلب لا يعزى إليه إلا جزء من هبوط النفط أخيرا ـــ بنسبة تراوح بين النصف والثلث ـــ بينما ترجع النسبة الباقية إلى تزايد العرض. وهكذا يظل اللغز القائم هو أين يمكن أن نشاهد الآثار الإيجابية لانخفاض أسعار النفط؟
وللإجابة عن هذا السؤال، يقارن عدد نيسان (أبريل) 2016 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي بين نمو الطلب المحلي في عام 2015 في البلدان المستوردة والمصدرة للنفط من ناحية وما توقعناه في نيسان (أبريل) 2015 من ناحية أخرى ــــ بعد أول تراجع كبير في أسعار النفط. وتحظى البلدان المصدرة للنفط بنصيب الأسد من تخفيض توقعات الطلب العالمي ـــ رغم مساهمتها المحدودة نسبيا في إجمالي الناتج المحلي العالمي (نحو 12 في المائة). ولكن الطلب المحلي في البلدان المستوردة للنفط لم يكن أفضل بدوره من توقعاتنا السابقة، رغم هبوط أسعار النفط الذي تجاوز التوقعات.
ولفهم السبب وراء غياب الآثار الإيجابية في الإنفاق أمام العين المجردة، يتعين إلقاء نظرة أعمق على عناصر الطلب في البلدان المصدرة والمستوردة للنفط.
في عام 2015، كان الطلب المحلي أضعف كثيرا بالفعل لدى البلدان المصدرة للنفط مقارنة بما تنبأنا به العام السابق. وجاءت هذه المفاجأة السلبية انعكاسا لضعف الاستهلاك وكذلك ضعف الاستثمار على وجه الخصوص. ويمكن أن تستعين البلدان الغنية المصدرة للنفط بما لديها من احتياطيات أو صناديق ثروة سيادية، ومعظمها يمتلك ذلك، لكنها تواصل أيضا إجراء خفض حاد في إنفاقها الحكومي. ولا شك أن طاقة الاقتراض لدى البلدان الأفقر أقل بكثير، وهي معرضة للأزمات إذا وصلت ديونها الخارجية إلى مستويات بالغة الارتفاع. ومعظم هذه البلدان لديها فوائض أقل بكثير في حساباتها الجارية أو مستويات عجز أعلى، وشهدت ارتفاعا في فروق العائد على سنداتها السيادية. ويمكن أن يطرأ هبوط حاد في الإنفاق المحلي لدى هذه البلدان، وذلك بصورة غير خطية ــــ تأتي أحيانا على أثر انخفاضات سعر الصرف التي ترفع سعر السلع المستوردة. وقد انخفض الاستثمار العام بسرعة كبيرة ـــ فمعظم السلع الرأسمالية مستوردة، وحين يتطلب الأمر تصحيحا لأوضاع المالية العامة عادة ما يكون الإنفاق الرأسمالي أول بند يتم تخفيضه. وبالطبع، هناك عوامل لا تتعلق بأسعار النفط تشكل عبئا على النشاط الاقتصادي أيضا في عدد من البلدان المصدرة للنفط ــــ وهي تراوح بين الصراع الداخلي في العراق وليبيا واليمن والعقوبات في روسيا.
ولا شك أن أسعار النفط المنخفضة تقلل أرباح التنقيب والاستخراج في القطاع الخاص، ما يخفض النفقات الرأسمالية أيضا. وطبقا لمؤسسة استشارات وبيانات الطاقة Rystad Energy بلغ حجم الانخفاض في النفقات الرأسمالية العالمية نحو 215 مليار دولار في قطاع النفط والغاز بين عامي 2014 و2015 ـــ نحو 1.2 في المائة من تكوين رأس المال الثابت العالمي "أو أقل بقليل من 0.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي". وحتى بعض البلدان المستوردة للنفط أصابها ضرر بالغ، ولا سيما الولايات المتحدة التي يرجع إليها جزء كبير من الانخفاض العالمي في الاستثمارات المتعلقة بالطاقة.
شهدت الاقتصادات المتقدمة المستوردة للنفط بعض الآثار الإيجابية بالفعل في الاستهلاك ـــ مثلما حدث في منطقة اليورو ــــ لكنها كانت أقل من المتوقع إلى حد ما. كذلك كان نمو الاستثمار دون مستوى التوقعات ـــ ما يعكس بدوره الهبوط الكبير غير المتوقع في الاستثمار الأمريكي المتعلق بالطاقة، كما سبقت الإشارة. وفي هذا الصدد، يختلف موقف البلدان المستوردة للنفط في العالمين الصاعد والنامي. ففي هذه البلدان، عادة ما يكون انتقال أسعار الوقود الدولية إلى المحلية أقل من انتقالها في الاقتصادات المتقدمة، وقد قام بعضها بتخفيض دعم الوقود. صحيح أن تحسن أوضاع المالية العامة ينبغي أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تخفيض الضرائب أو زيادة الإنفاق العام، لكن هذه العملية يمكن أن تستغرق وقتا كما تخضع لعديد من الاحتكاكات والتسربات. وعلى وجه العموم، كان نمو الطلب المحلي بالنسبة إلى هذه البلدان المستوردة للنفط متفقا إلى حد كبير مع مستوى التوقعات ــــ رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية الكلية في عدد قليل من البلدان التي تصدر سلعا أولية غير النفط.